باربرا مكلينتوك عالمة الوراثة التي اشعلت فتيل التغيير في علم الوراثة النباتية

"لا يوجد نباتان متشابهان تماماً، كلها مختلفة، ونتيجة لذلك يجب أن أعرف سبب هذا الاختلاف، أبدأ مع البذور ولا أريد أن أتركها، لا أشعر أني أعرف القصة حقاً إذا لم أشاهد النباتات على طول الطريق. فأنا أعرفها عن كثب"، هكذا عبرت عالمة الوراثة الأمريكية باربرا مكلينتوك عن علاقتها وارتباطها الوثيق بعلم النبات والوراثة

مركز الأخبار ـ .
حصلت على جائزة نوبل في علم وظائف الأعضاء عام 1983، وبذلك كانت أول امرأة تحصل على هذه الجائزة، بعد أن اكتشفت العناصر الجينية المتنقلة من جيل لآخر، وبفضل إسهاماتها وإنجازاتها على الصعيدين العملي والنظري في علم الوراثة، حصدت العديد من الزمالات والأوسمة في هذا العلم.
أصبح علم الوراثة النباتية بفضلها علماً مهيمناً على جميع فروع علوم الأحياء، واستطاعت وضع أول خريطة جينية لنبات الذُرة، وقدمت تقنيات تمكنت من خلالها التأكيد على أفكار العالم توماس مورغان حول وجود علاقة بين الصفات الوراثية وتبادل المواد الوراثية، وعرفت بشغفها الكبير تجاه علم النبات.
 
دراستها واكتشافها حب العلوم النباتية
ولدت باربرا مكلينتوك الطفلة الثالثة من بين أربعة أطفال للطبيب توماس هنري مكلينتوك وسارة هاندي مكلينتوك، في 26 حزيران/يونيو عام 1902 بمدينة هارتفورد بولاية كونيتيكت الأمريكية، وعرفت في السنوات الأولى من عمرها باسم إليانور، إلا أن والداها قررا تغيير اسمها في اعتقاد منهما أن اسم إليانور "يوحي بالضعف" ولا يتناسب مع الشخصية القوية التي تتحلى بها ابنتهما، لذلك اختارا لها اسم باربرا.
ارتادت المدرسة لأول مرة وهي في سن الثالثة، وعاشت مع عمتها في مدينة بروكلين بنيويورك، بقصد تخفيف الأعباء المالية عن والديها، وفي عام 1908 انتقلت عائلتها أيضاً إلى بروكلين، وأكملت مرحلة الثانوية في مدرسة "إيراسموس هول الثانوية" عام 1917.
وصفت بأنها طفلة مستقلة وانفرادية وهو ما أكدت عليه أيضاً في مذكراتها، اكتشفت حبها للعلم خلال مراحل الدراسة، وأرادات أن تكمل تعليمها في كلية الزراعة بجامعة كورنيل بنيويورك، إلا أن والدتها اعترضت على إرسالها إلى الكلية؛ خوفاً من أن يقلل ذلك من فرصها في الزواج، ولكن والدها تدخل في الوقت المناسب.
والتحقت بجامعة كورنيل عام 1919، وتخرجت من كلية الزراعة قسم النبات عام 1923، ونظراً لشغفها بمجال دارستها التحقت بدورة مخصصة لطلاب الدراسات العليا لبروفيسور علم الوراثة كلود هاتشيسون عام 1922، وقد أشارت في مذكراتها إلى أن هذه الدورة كانت السبب الرئيسي في استمرارها بدراسة علم الوراثة حتى حصلت على درجة الدكتوراه في علم النبات من تلك الجامعة عام 1927.
ومع ابتكار باربرا مكلينتوك لتقنيات جديدة استطاعت أن تثبت أفكار عالم البيولوجية التطورية توماس مورغان التي مضى عليها أكثر من عقدين، والذي افترض فيها وجود علاقة بين الصفات الوراثية وتبادل المواد الوراثية بواسطة الكروموسومات، لكن بسبب القيود الشديدة التي فرضت على تقنيات تجارب علم الوراثة الخلوية لم يستطع إثبات صحة أفكاره عملياً. 
ركزت خلال دارستها لعلم الوراثة الخلوية على تطوير طرق لتوصيف كروموسومات نبات الذُرة، وهو الفرع الذي أثر على جيل كامل من الطلاب، وشاركت أبحاثها مع مجموعة من علماء النبات أمثال ماركوس رودز وكذلك الحاصل على جائزة نوبل جورج بيد.
في أواخر العشرينيات بدأت في دراسة الكروموسومات التي وصفت فيما بعد بأنها حزمة منظمة البناء والتركيب، يتكون معظمها من حمض نووي ريبوزي منقوص الأوكسجين في الكائنات الحية، يقع الحمض في نواة الخلية، ولا توجد الكروموسومات بشكل منفردة إنما تقترن مع العديد من البروتينات الهيكلية.
وأظهرت لأول مرة في تاريخ علوم النبات شكل وبنية الكروموسومات العشرة ذات الخصائص الوراثية المتطابقة والطريقة التي تتغير فيها خلايا عملية الاستنساخ في الذُرة، وتم تضمينها في معظم الكتب المدرسية.
 
أبحاثها وإنجازاتها العلمية
في أواخر عشرينات القرن الماضي نشرت ورقة بحثية في علم الوراثة حول توصيف كروموسومات الذُرة الثلاثية، وكان لها الفضل في تحديد نحو 10 من أصل 17 بحثاً قدمها علماء بجامعة كورنيل بين عامي (1929 ـ 1935)، وقد أشاد عالم النبات ماركوس رودز بالاهتمام الذي حصلت عليه في علم الوارثة الخلوي الخاص بنبات الذُرة.
واستطاعت وصف التفاعل بين الكروموسومات المتقاطعة عام 1930، وفي العام التالي أوضحت ماهية التفاعلات الجديدة على الكروموسومات وما طرأ عليها من تغيرات وراثية خلال فترة الانقسام باستخدام المجهر، فتمكنت من نشر أول خريطة وراثية لنبات الذُرة عام 1931، بينت من خلالها ترتيب ثلاثة جينات على كروموسوم الذُرة التاسع، وبهذه المعلومات قدمت بيانات مهمة في دراسة ما عرف لاحقاً بـ "الجينات القافزة" وكذلك الكروموسومات المتجانسة.
وعلى إثر منشوراتها الهامة في علم الوراثة الخلوية حصلت على العديد من الزمالات ما بعد الدكتوراه من المجلس القومي للبحوث، مما ساعدها على متابعة دراستها لعلم الوراثة في جامعتي كورنيل وميزوري ومعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا ومؤسسة غوغنهايم.
وخلال عامي (1931 ـ 1932) وأثناء عملها في جامعة ميزوري استخدمت الأشعة السينية كأداة علمية قوية لإخضاع نبات الذُرة، بعد أن نصحها بذلك عالم الوراثة لويس ستادلر، وتمكنت من تحديد "الكروموسومات الحلقية"، كما أنها وسعت بحثها حول تأثير الأشعة السينية على الوراثة الخلوية للذُرة، وخلاله لاحظت انكسار واندماج الكروموسومات في خلايا الذُرة المشعة.
وأثبتت أن بعض النباتات يحدث كسر في كروموسومات خلايا سويداء بذورها، وخلال طور انقسام النواة تشكل الكروموسومات المكسورة جسراً صبغياً ينكسر عند تحرك الصبغيات نحو أقطاب الخلية، وتعود الكروموسومات إلى الالتحام، وسميت هذه العملية بـ "دورة الكسر والانصهار ـ الجسر" التي ساعدت على كشف حالة عدم الاستقرار الكروموسومي، وبذلك مهدت باربرا مكلينتوك لأبحاث ذات أهمية بالغة في مرض السرطان. 
وبعد أن حصلت على زمالة من مؤسسة غوغنهايم في ألمانيا خلال عامي (1933 ـ 1934)، غادرتها مبكراً بسبب تصاعد التوتر في الأوساط السياسية في أوروبا على خلفية الحرب العالمية الثانية، وبقيت في كورنيل حتى عام 1936 وعملت أستاذ مساعد لعالم الوراثة لويس ستادلر في قسم النبات بجامعة ميزوري في كولومبيا.
وبفضل مساهماتها وإنجازاتها تم الاعتراف بمكانتها البارزة في مجال علم الوراثة عام 1944، وذلك من خلال انتخابها في الأكاديمية الوطنية للعلوم، وبعد عام واحد أصبحت أول رئيسة لجمعية علم الوراثة الأمريكية.
وحتى ثلاثينيات القرن الماضي لم يكن علم الوراثة الخلوية علماً رسمياً، لكن بفضل باربرا مكلينتوك أصبح كذلك، عندما استخدمت نبات الذُرة باعتباره نموذجاً للكائن الحي، لتقدم أول دليل عملي على وجود الجينات على ظهر الكروموسومات، من خلال طرحها لنظرية التبادل الكروموسومي التي نصت فيها على أن الكروموسومات المتجانسة التي تنتج الكروموسومات المؤتلفة، تتبادل المواد الجينية أثناء التكاثر الجنسي، وأردفتها بنظرية التوليف الجيني التي أكدت فيها أن إحدى العمليات الجينية الناقلة يتم فيها خلط تجمعات الأليلات الموجودة في مواقع جينية مختلفة عند الأبوين أثناء انتقالها إلى الأبناء.
 
"الجينات القافزة" اكتشاف أوصلها لجائزة نوبل
زرعت باربرا مكلينتوك بذور الذُرة في شتاء عام 1944 كونها نباتات ذاتية التلقيح؛ أي أن الأعضاء المذكرة والمؤنثة متواجدة في زهرة واحدة، وخلال تجربتها بدأت الأزهار بالنمو مع تغير غير طبيعي في لون الأوراق السفلية؛ على الرغم من تشابه الحجم بين الأوراق، إلا أن بعضها ظهر عليها بقع بيضاء.
وعزت حدوث ذلك إلى خسارة عوامل وراثية معينة من خلايا معينة خلال عملية الانقسام، حيث تنتقل هذه العوامل إلى خلايا أخرى، كما لاحظت بعد مقارنة جيل الآباء بجيل الأبناء أن بعض الكروموسومات غيرت مواقعها.
وبذلك استطاعت أن تناقض النظرية التي نصت على أن الجينات ثابتة في مواقعها على الكروموسوم، وإثبات مسؤوليتها الكاملة في التحكم بانتقال الصفات الوراثية من جيل إلى آخر بظهورها على الكروموسوم وذلك بناءً على ظروف بيئية معينة في مراحل مختلفة أثناء نمو الخلية وتطورها.
واستخدمت الجينات القافزة في إثبات دورها الفاعل في تحول الخصائص الفيزيائية داخلياً وخارجياً، وكان اكتشافها لهذه الجينات من أهم ما توصلت إليه، وأطلقت عليها اسم "العناصر المتنقلة" والتي غالباً ما يشار إليها بـ "الجينات القافزة".
وفي عام 1948 طورت نظرية "وحدات التحكم" من خلال تنظيم العناصر التي تتحكم بالجينات، لتميزها عن باقي الجينات، وبهذه النظرية استطاعت تفسير آليات عمل الكائنات متعددة الخلايا المتكونة من جينوم متطابق الصفات الوراثية، وبعد عامين نشرت بحثاً تفصيلياً عن سلوك نبات الذُرة وقدمته بشكل مختصر خلال الندوة السنوية في مختبر كولد سبرينج هاربور.
وبعد انتهاء تجربتها قدمت تقريراً بما وصلت إليه عام 1951، كما نشرت في تشرين الثاني/نوفمبر عام 1953 مقال بعنوان ""Selected Loci in Maize induction of instability وثقت فيه كامل اكتشافاتها حول الجينات، لكن قوبلت جهودها بالرفض والتجاهل من قبل العلماء الآخرين لأكثر من عقد من الزمن.
وفي ستينات وسبعينات القرن الماضي نشرت القانون الأساسي لسلالات الذُرة ووضعت بصمتها في تطور جذور سلالات النبات وعلم الأحياء التطوري، وفي عام 1960 تم التأكد من صحة ما نشرته بعد ظهور العناصر المتنقلة في البكتيريا، وبعد مرور أكثر من ثلاثين عام على تجربتها الأولى، وبالتحديد في عام 1983 حصلت على جائزة نوبل في الفسيولوجيا أو الطب (وظائف الأعضاء)، وتعد أهم جائزة كونها أول امرأة تفوز بها دون مشاركة أحد، وهو لقب لا تزال تحتفظ به إلى يومنا هذا.
 
جوائز وتكريمات
نظراً لجهودها الحثيثة في المجال العلمي حصلت باربرا مكلينتوك في عام 1947 على جائزة الإنجاز العلمي من الجمعية الأمريكية للنساء الجامعيات، وبعد مرور عقدين من الزمن منحت جائزة كيمبر للوراثة، وفي عام 1970 حصلت على الميدالية الوطنية في العلوم من قبل الرئيس السابق للولايات المتحدة الأمريكية ريتشارد نيكسون، وأصبحت أول امرأة تحصل على هذه الميدالية. 
وفي عام 1973 أطلق مختبر كولد سبربنج هاربر اسمها على أحد المباني، وبعد أقل من ستة أعوام حصلت على جائزة لويس أس روزنستيل للعمل المتميز في البحوث الطبية الأساسية، وتكريماً لها ولجهودها تم تسمية جائزة علمية باسمها وحصل عليها العديد من العلماء منهم ديفيد بولكومب وديتليف ويجل روبرت وسوزان ويسلر.
وكانت أول مستفيدة من منحة مؤسسة ماك آرثر فونديشن التي قدمتها عام 1981، كما حصلت على جائزة ألبرت لاسكر للبحث الطبي الأساسي وجائزة وولف في الطب وميدالية هانت مورغان المقدمة من جامعة علم الوراثة الأمريكية، وفي العام التالي منحتها جامعة كولومبيا جائزة لويزا غروس هورويتز عن بحثها في "تطور المعلومات الوراثية والتحكم في التعبير عنها".
وبعد أكثر من خمسة أعوام انتخبت عضواً خارجياً في الجمعية الملكية، وفي عام 1992 منحت وسام بنيامين فرانكلين للإنجاز المتميز في علوم الجمعية الفلسفية الأمريكية، كما حصلت على 14 دكتوراه فخرية في درجات العلوم ودكتوره فخرية واحدة في الآداب الإنسانية.
 
 لم يكن الموت كافياً ليوقف تأثيرها في العلوم
قضت باربرا مكلينتوك سنواتها الأخيرة في مختبر كولد سبرينج هاربور في لونج آيلاند بنيويورك، ألقت المحاضرات التي تتمحور حول العناصر الوراثية المنتقلة وكذلك تاريخ البحوث الوراثية، وتوفيت عن عمر ناهز التسعين عاماً في مدينة نيويورك في ظروف طبيعية، مع العلم أنها لم تتزوج.
وأصبحت موضوعاً أساسياً لكتب المؤرخ ناثانيل كومفورت، حيث أشار في كتابه "ذا تانجلد فييلد" إلى بحثها عن أنماط عناصر التحكم الوراثية، كما ذكرها في "سيرة كومفورت" ووصفها بـ "أسطورة مكلينتوك"، واستند إلى أطروحة كيلر التي أكد فيها أن باربرا مكلينتوك تم تجاهل أبحاثها في أحيان كثيرة ولم تأخذ على محمل الجد فقط لأنها امرأة، حيث قال عالم الوراثة سيوال رايت "أنها لا تفهم الرياضيات الضمنية المرفقة بعلمها"، خصوصاً عندما أكدت أن الوراثة في الذُرة تناقض توزيعات مندل.
كما روى عالم الوراثة لوت أورباك "أن جوشوا لدربيرج عندما عاد من مختبر مكلينتوك قال إن هذه المرأة إما مجنونة أو عبقرية، ولأنها لا تقبل بالغطرسة طردته من مختبرها بعد نصف ساعة، فقد شعرت أنها عبرت الصحراء وحدها ولم يتبعها أحد".
لكن من وجهة نظر ناثانيل كومفورت لم تكن باربرا مكلينتوك ضحية للتمييز بين الجنسين، مستنداً في كلامه على النطاق الواسع الذي كتب فيه عنها في سياق دراسات المرأة، كما بينت أعمال السيرة الذاتية الحديثة حول المرأة في مجال العلوم المكانة المرموقة التي تحلت بها باربرا، منها عمل ماري كيترايدج الذي حمل عنوان "باربرا مكلينتوك".
كما قدمت باربرا مكلينتوك للشباب سيرة ذاتية حديثة سطرتها الكاتبة نعومي باساكوف في عملها تحت عنوان "باربرا مكلينتوك العبقرية في علم الوراثة"، واتصف العمل بالمنظور الجديد المستند للأدب الحالي، وفي عام 1989 و2005صدرت صورتها مع عدد من العلماء على طوابع تم إصدارها في السويد وأمريكيا من قبل دائرة بريد العلماء الأمريكيين، فيما تم تسمية مبنى صغير في جامعة كورنيل ومبنى في مختبر كولد هاربور وشارع بحديقة العلوم في برلين باسمها تكريماً للجهود التي قامت بها.