الملكة حتشبسوت.. أعظم ملكات الفراعنة في التاريخ
امرأة قوية طموحة واثقة من مكانتها وقدرتها، ملكة تميزت بطابع خاص في إدارة حكم بلادها، وواحدة من أعظم ملكات التاريخ وأقوى حكام مصر القديمة وهي المرأة الوحيدة التي حملت لقب فرعون في تاريخ مصر
مركز الأخبار ـ .
اشتهرت سيدة العالم القديم الملكة غنمت آمون باسم "الملكة حتشبسوت" ويعني اسمها "خليلة آمون المفضلة من بين النساء" أو "خليلة آمون درة الأميرات"، كما لقبت بـ "الزوجة الملكية العظيمة"، وآمون هو إله الشمس والريح والخصوبة.
استطاعت الملكة حتشبسوت الخامسة ضمن سلسلة ملوك الأسرة الفرعونية الثامنة عشرة من عصر الدولة الحديثة والتي ولدت في عام 1508 ق.م أن تحكم مصر لمدة 21 عاماً، وذلك بحسب تقديرات المؤرخ المصري القديم مانيتون الذي كان كاهناً في عهد بطليموس الثاني.
ورثت حتشبسوت منصب "زوجة الإله آمون" من ميريت آمون زوجة رمسيس الثاني، واستخدمته كلقب مفضل، حيث اختلقت الملكة حتشبسوت قصة مفادها أنها من نسل إلهي فهي ابنة المعبود آمون الذي زار والدتها أحمس في صورة إنسان بشري وكانت هي ثمرة هذه العلاقة بحسب الرواية، وأدعت الرواية أيضا أن أباها آمون بشّر أمها بأن ابنتها حتشبسوت ستتولى عرش مصر، ولا تزال هذه الرواية منقوشة على جدران معبدها بالدير البحري في البر الغربي بمدينة الأقصر.
تعليم حتشبسوت
تلقت الملكة حتشبسوت تعليماً مكثفاً في علوم الأخلاق والسلوك الصحيح، بالإضافة إلى القراءة والكتابة والحساب، كما أنها تعلمت مبادئ علم الفلسفة والطقوس الدينية وقواعد اللغة والإنشاء، وكان على الملكة أن تتعلم وتنقل الحكم المأثورة عن الحكماء المصريين القدماء المتناقلة بين الناس كأي فرد من الأسرة الحاكمة من الأمراء والأميرات.
لم تطالب حتشبسوت بأية امتيازات أو معاملة خاصة عن غيرها من التلاميذ باعتبارها الوريثة الشرعية للحكم بالرغم من صرامة معلمها الذي كان يمارس عليها الأساليب العنيفة في التعليم دون خوف أو محاباة لمركزها في المدرسة الملكية.
تحديات الحكم
عانت الملكة حتشبسوت من وقت عصيب حين توفي والدها الملك تحوتمس الأول، فكان عليها مشقة تحمل مسؤولية أخيها وإدارة البلاد من خلال تسلم العرش الذي كان من نصيبها باعتبارها الوريثة الشرعية والفرعون الذي سيخلف تحوتمس الأول، إلا إن طريق استلام العرش لم يكن بتلك السهولة.
حتشبسوت هي الابنة الكبرى والوريثة الشرعية للملك تحوتمس الأول والملكة أحمس، حيث لم يكن هناك وريث شرعي من الذكور، رغم أنه كان لها أخ غير شقيق من زوجة أبيها الثانية موت نفرت والذي يدعى بـ "تحوتمس الثاني".
بدأت تقاليد البلاط الملكي والمجتمع والكهنة المتمثلين بالسلطة الذكورية بالوقوف في طريق تولي حتشبسوت العرش، رافضين فكرة تولي امرأة حكم البلاد، وكانت التقاليد في ذلك الوقت تؤيد حكم الزوجين معاً وعدم تفرد أحدهما على حساب الآخر وأيضاً لا تمنح المرأة لقب الفرعون على عكس الرجل، وهو ما كان السبب في تشبهها بالرجال من خلال ارتدائها لزيهم وحذف تاء التأنيث من نهاية اسمها.
فواجهت حتشبسوت الكهنة والمجتمع والبلاط الملكي بكل إصرار ولكن دون فائدة أمام كل تلك العوائق التي وقفت في وجهها، فاضطرت الملكة أن تتزوج من أخيها غير الشقيق تحوتمس الثاني وهي في سن الـ 12 عاماً تبعاً لما هو متعارف عليه بين الملوك الفراعنة ليتشاركا معاً الحكم بالرغم من ضعف صحته وقلة خبرته في إدارة شؤون البلاد، وبذلك جعلوها مجرد زوجة للملك لا أكثر، إلا أنها عادت لتمسك بزمام الأمور وتأخذ دورها في حكم البلاد بشكل غير معلن فحكمت البلاد من وراء الستار باسم زوجها تحوتمس الثاني.
وأنجبت من زوجها ابناً مات في طفولته وبنتان هما "نفرو رع" و"مريت رع حتشبسوت"، وأنجب زوجها من إحدى محظيات البلاط الملكي والتي تدعى "إيزيس أو إيزه" ابنه "تحوتمس الثالث".
توليها العرش
مع بدء تدهور الوضع الصحي لزوجها تحوتمس الثاني، كان واضحاً بأنها ستخلفه في العرش مع تأييد من أصدقائها الذين آمنوا بقدرتها وقوتها وكانوا على أتم استعداد لمساندتها عندما يحين الوقت، إلا أن تحوتمس الثاني كان يريد منح ابنه الغير شرعي تحوتمس الثالث حق تولي العرش خلفة له بما أنه لم يكن له وريث شرعي، كما أن تحوتمس الثالث كان يحيك المؤامرات في الخفاء مع كهنة معبد آمون في الكرنك "وهي المدينة المحصنة"، مثيراً بها الشعور العام بين الكهنة والشعب ضد فكرة قيام امرأة بحكمهم.
وبعد موت تحوتمس الثاني عام 1501 ق.م بوقت قصير، كانت حتشبسوت ذاهبة إلى المعبد لتشهد احتفالاً يخرج فيه موكب الإله آمون، وقفت المحفة التي كانت تحمل تمثال "آمون" أمام ابن زوجها تحوتمس الثالث وأبت أن تتزحزح بحسب ما تشير إليه الدراسات، فوافق جميع الحاضرين على أن ما حدث ليس إلا علامة بأن آمون قد اختاره ليشاركها الحكم، وفي الثالث من أيار/مايو 1501 ق.م، ترك تحوتمس الثالث عمله كأحد صغار الكهنة في معبد آمون، ليدخل القصر الملكي للفراعنة دون خبرة في إدارة البلاد مثلما حدث مع والده، فتولت حتشبسوت التي كانت تبلغ من العمر 34 عاماً آنذاك وصاية الأمير وتشاركت معه الحكم.
ونتيجة لذلك سادت بين حتشبسوت وابن زوجها المنافسة والضغينة والحقد، ولم تلبث حتشبسوت إلا وأن جمعت حولها المناصرين وكونت معهم حزباً، لم يدم وقت طويل حتى اشتد نفوذ حزبها لدرجة أن الفرعون تحوتمس الثالث أصبح عاجزاً عن حكم البلاد، وبذلك أطاحت حتشبسوت به عن العرش.
وفي عام 1404 ق.م، تم إعلان غنمت آمون "حتشبسوت" ملكةً على الصعيد ودلتا النيل، وحكمت مصر وممتلكاتها في الخارج وحدها كفرعون، كانت هذه اللحظة هي لحظة النصر بالنسبة لها بحسب ما أشار إليه خبراء في علم الآثار والمومياوات وعهدت إلى تعليم تحوتمس الثالث وتربيته عسكرياً، وعلمته فنون إدارة الدولة، وقيادة بعض الحملات العسكرية ضد الثائرين على الحكم خارج البلاد، إلا أنه لا يوجد دليل أثري بعد تثبت قيادته تلك الحملات.
أهم أعمالها في فترة حكمها
في بداية حكمها عانت الملكة حتشبسوت من بعض الصعوبات في تقبلها من قبل الشعب، على الرغم من أن حكمها كان يصور امرأة بكامل زينتها إلا أنها في وقت لاحق لجأت إلى ارتداء زي الفراعنة الرجال ووضعت لحية مستعارة للتشبه بمن سبقها من الفراعنة خلال الاحتفالات الرسمية واقتداءً بآلهة الشمس وحاكم الأرض لدى المصريين القدماء "الإله حورس".
وقد كرست حتشبسوت طوال 12 عاما كل قواها لإحلال السلام، وعاش المصريون في رفاهية أثناء حكمها كما ازدهر البناء والعمران، ونشطت التجارة واستخدمت موارد مصر لإنشاء الطرق وتشييد المنازل والمعابد، واستطاعت بذكائها ودبلوماسيتها أن تنمي العلاقات وخاصة التجارية منها مع دول الشرق القديم، لمنع أية حروب معهم.
كما وتميز عهدها بقوة الجيش ونشاط البناء والرحلات البحرية التي أرسلتها للتجارة مع بلاد الجوار، وأعادت فتح المحاجر والمناجم التي توقف عملها لفترة طويلة في فترة حكم الهكسوس، وخاصة مناجم النحاس والمالاكيت "وهو معدن مركب من كربونات النحاس المائية ذات اللون الأخضر" في شبه جزيرة سيناء.
قامت بتنظيف القناة التي تربط نهر النيل عند نهاية الدلتا بالبحر الأحمر التي حفرها المصريون أيام الدولة الوسطى، وأعادت استخدامه لتسيير أسطول مصر البحري بها ليخرج إلى خليج سويس وبعدها إلى مياه البحر الأحمر، واهتمت حتشبسوت بالأسطول التجاري فأنشأت السفن الكبيرة، واستغلتها في النقل الداخلي لنقل المسلات التي أمرت بإضافتها إلى معبد الكرنك تمجيداً للإله آمون، وفي بعثات التبادل التجاري مع جيرانها.
وزاد الإقبال على مواد ترفيهية أتت بها الأساطيل التجارية من البلاد المجاورة، ومن أهمها "البخور، العطور، التوابل، النباتات، الأشجار الاستوائية، الحيوانات المفترسة والجلود"، وأنشأت معبداً جنائزياً لها في الدير البحري من الحجر الجيري الأبيض الملكي المجلوب من طرة، وعلى هيئة ثلاث صالات تعلو الواحدة الأخرى على الضفة الغربية من نهر النيل في مدينة الأقصر "طيبة سابقاً" والملقبة بمدينة المائة باب أو مدينة الشمس.
بالإضافة إلى أنها أمرت ببناء ضريح لزوجها الملك تحوتمس الثاني في وادي الملوك المعروف أيضاً بـ "بيبان الملوك"، بالقرب من مدينة الأقصر.
التجارة الخارجية
تميزت سياسة حتشبسوت الخارجية بالتجديد والازدهار، فقامت بإرسال عدة رحلات بحرية تم تصويرها على جدران معبدها بالدير البحري، فقد أرسلت الملكة حتشبسوت منها أسطولاً كبيراً إلى المحيط الأطلسي وأمرت باستيراد بعض أنواع الأسماك مما ساهمت في ازدهار التجارة مع المحيط، كما وأرسلت بعثات تجارية على متن العديد من السفن التي تقوم بالملاحة في البحر الأحمر والمحملة بالهدايا والبضائع المصرية كأوراق البردي وبذور الكتان إلى بلاد البونت "الصومال وجنوب اليمن حالياً"، استقبلها ملك البونت وأعادها محملة بكميات وفيرة من "الأخشاب، البخور، الحيوانات المفترسة، الأحجار الكريمة، العاج، الأبنوس والجلود".
وأمرت الملكة بإرسال بعثة إلى مدينة أسوان لجلب العديد من الأحجار الضخمة لبناء المنشآت، كما أنشأت مسلتين من الجرانيت من أجل تمجيد الإله آمون، يبلغ كل منهما نحو 35 طناً، وتم نقلهما فيما بعد عبر نهر النيل إلى مدينة طيبة، وأخذت المسلتان مكانهما في معبد الكرنك في الأقصر، وعندما زار نابليون بونابرت أثناء الحملة الفرنسية على مصر عام 1879 أمر بنقل إحدى المسلتين إلى فرنسا، وهي تزين ميدان الكونكورد في العاصمة الفرنسية باريس حتى الآن.
والمسلة هي عمود حجري نحيف ذو أربع جوانب وينتهي رأسه بهرم صغير، كانت تنحت على أضلاعه كتابات هيروغليفية ورسومات ملكية ودينية، اشتهرت به الحضارة المصرية الفرعونية القديمة، وإلى جانب الحضارة المصرية الفرعونية وجدت أيضاً في حضارات أخرى كالأمازيغية، الحبشية، الآشورية والرومانية.
الحملات العسكرية
لم تكن حتشبسوت تميل إلى سياسة الغزو الخارجي، لكنها سجلت بعض الحملات العسكرية التي جاءت أغلبها تأديبية، وتم اكتشاف قيام تلك الحملات عندما تم العثور على مخطوطة في مقبرة "سنموت"، ومن بين تلك الحملات الحملة العسكرية القائمة على الاستيلاء على غزة التي قام بها تحوتمس الثالث في نهاية حكمها.
وقادت حتشبسوت الحملة التأديبية على بلاد النوبة "السودان حالياً" في بداية حكمها وقد ورد ذلك في مخطوط لرئيس الخزانة "تيي Tij"، كما أنها قادت حملة تأديبية على سوريا وفلسطين بحسب مخطوطة وجدت في الدير البحري، بالإضافة إلى حملة ضد تمرد في النوبة وهي في العام الـ 20 من حكمها بحسب ما كتب على لوحة تومبوس.
علاقة الملكة حتشبسوت والمهندس سنموت
يعد المهندس "سنموت" الذي بنى معبد الدير البحري لحتشبسوت والذي كان يتولى تربية وتعليم ابنتها الأميرة الصغيرة (نفرو رع) من أهم الشخصيات التي عاشت في عهد هذه الملكة، وهو المستشار الخاص بالملكة، وبقي لغزاً من حياة الملكة التي منحته 80 لقباً، وقد بلغ من حبه لملكته إن حفر نفقا بين مقبرتها ومقبرته، ليكون قريباً منها في الحياة الآخرة، كما كان قريباً منها في الدنيا.
أما هي فقد كانت تقدر نبوغه وقوة شخصيته، وقد أشارت تلميحات بعض المؤرخين إلى وجود علاقة حب قد جمعت بين حتشبسوت وسنموت، بعد وفاة زوجها تحوتمس الثاني، كما قد رجح بعضهم إن حتشبسوت كانت تحترمه وكان له مكانة كبيرة عندها بسبب انبهارها وحبها بفنه وأعماله الهندسية، وإن علاقتها به كانت علاقة احترام وتقدير وليست علاقة عاطفية، ولكن تبقى مجرد تخمينات ولا يوجد ما يؤيد الاحتمالين من دلائل أثرية حتى وقتنا الحاضر.
وفاتها
لقد اعتـقد في الماضي أن حتشبسوت قتلت بسبب التنازع على الحكم بينها وبين تحوتمس الثالث، ولكن وبعد التحقق من موميائها التي دفنت في وادي الملوك ويرمز لقبرها بـ KV20 الذي وجد بجوار تابوت أبيها تحوتمس الأول، أكد العلماء أن سبب موتها يرجع إلى إصابتها بالسرطان أو السكري.
وقد توفيت حتشبسوت في 14 كانون الثاني/يناير 1457 ق.م، خلال العام الـ 22 من فترة حكمها، بحسب ما جاء في كتابة على لوحة وجدت بأرمنت.
وفي عام 1903، قام عالم الآثار البريطاني هوارد كارتر باكتشاف تابوت حتشبسوت ولكنه كان فارغا، وبعد إطلاق عملية بحث جديدة في عام 2005، اكتشف فريق من علماء الآثار مومياء الملكة حتشبسوت، وقد وضعت في المتحف المصري بالقاهرة.
ورجح العلماء في أن يكون سبب وفاتها متصل بدهان كان يستخدم لتخفيف حالة الجلد الوراثية المزمنة لديها، إلا أن العلاج كان يحتوي على مكونات سامة، وقد كشفت التجارب التي أجروها على القطع الأثرية الموجودة قرب قبرها أن هناك آثار لمادة مسببة للسرطان.
وبعد وفاة الملكة حتشبسوت بدأ تحتمس الثالث بشن حملة للقضاء على أي ذكرى تعبر عنها، وبالفعل قام بتدمير وتشويه ومحو المعالم والنقوش الخاصة بها، وبنى سور حول المسلات الخاصة التي أمرت ببنائها ويعتقد البعض أن هذه الحملة كانت نتيجة للضغينة بينهما منذ فترة طويلة.
ومهما يكن من أمر الملكة "حتشبسوت" فإنها واحدة من السيدات القليلات اللواتي وصلن إلى قمة الإدارة في بلادهن في العالم القديم، وبذلت كل الجهد لتقنع المجتمع في عهدها بأن يقبلها كامرأة تحكمه، وسواء أقنعت "حتشبسوت" المجتمع المصري القديم، أم لم تقنعهم، فإن ما فعلته كان أعظم بكثير مما فعله بعض الملوك الرجال.