تجارب عن اضطرابات ما بعد الحرب وكيفية تجاوزها

لم يكاد ينسى السكان في مدينة غزة إحدى عشر يوم من التصعيد الذي خلف وراءه خسائر عديدة بالأرواح والمباني، ليرجع "الاحتلال الإسرائيلي" من جديد يصب غضبه بإطلاق صواريخ على مواقع تابعة للحكومة وأراضي زراعية فارغة في مناطق متفرقة بالقطاع

رفيف اسليم

غزة ـ ، ناشراً الخوف بين السكان ومروج للإشاعات التي تنبئ باحتمالية عودة إطلاق النار في أي وقت، بالتزامن مع تولي الحكومة الجديدة التي يرأسها رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت.
لكن هل سيحتمل سكان مدينة غزة جولة تصعيدية أخرى؟ وهل استطاعوا ترميم الألم النفسي إثر العدوان الذي لم يمضي على انتهائه شهر من الزمن، تلك الأسئلة وجهتها وكالتنا لعدد من النساء بالقطاع في ظل الأوضاع المتوترة التي شهدتها يوم الجمعة 18 حزيران/يونيو، لتكون إجابتهم "لا" بشكل قاطع مع اختلاف وتباين أسباب الرفض بينهم.
تقول ضحى الكحلوت (26) عاماً، أن سكان قطاع غزة دخلوا في حربهم الرابعة وهم بالكاد استطاعوا تجاوز ثلاث حروب سابقة كانت صادمة وطاحنة، ملفتة أن البعض قد يظنُ أن سكان تلك المدينة الصغيرة قد اعتادوا حالة الحرب وأصواتها وخوفها لمجرد أنهم عاشوا التجربة أكثر من مرة في كل جولة تصعيدية، لكنّ ذلك غير حقيقي لأن الحروب تصعب مرة بعد مرة، ومعدات الاحتلال وذخائره تشتد فتكاً.
وتكمل ضحى الكحلوت أن أصعب ما تم مواجهته في آخر عدوان على القطاع هو طمأنة الأطفال والمحاولات المستمرة بتهدئة رعبهم في الوقت الذي يعيش الكبار داخلهم حالة الخوف مثلهم بل وأكثر، مشيرة حتى ولو انتهت الحرب إلا أن سكان المدينة يعيشون آثارها برؤية الشوارع أو المنشآت المدمرة التي تتسارع فور رؤيتها إلى الأذهان أصوات الصواريخ والرعب، وحالة الفزع التي كانت تعاش بكامل تفاصيلها في كل ليلة وبالموعد ذاته والمحفوفة باستغاثة الجرحى وصور الضحايا.
وعن تجاوز صدمة ما بعد العدوان تروي ضحى الكحلوت أنها عاشت أسبوعاً كاملاً بعد انتهاء العدوان في غرفتها لا تخرج منها ولا تتواصل مع أحد، وذلك في محاولة للنجاة بنفسها من هول ما رأته وسمعته، لافتة أن الشعور بالذنب يلاحقها باستمرار مع السؤال المتكرر الذي يتردد بذهنها "لماذا نجت هي ولم ينجو الكثير من الأطفال والنساء مثلها"، ولعل هذا الشعور هو سبب حالة اليأس المرافق لها وعدم الرغبة في مباشرة عملها ككاتبة حتى الآن.
وتضيف أنها تعاني من حالة أرق أصابت معظم ساكني قطاع غزة ما بعد العدوان وحتى اليوم، فإن سألت أي شخص من القطاع عن نومه اشتكى من عدم انتظامه، ومن الكوابيس التي تراوده لأن الحرب عاشت داخلهم أكثر من اللازم، مشيرةً إلى أنها الآن رغم رفضها لعدوان جديد، إلا أنه تشكل لديها حالة من اللامبالاة تجاه الشائعات لجولة قتالية جديدة في تلك المدينة التي لم تقوى حتى اليوم على إزالة ركام العدوان الأخير.
أما أمل موسى (22) عاماً، فتشير أن الآثار النفسية لما بعد العدوان بدأت تظهر منذ يوم إعلان وقف إطلاق النار فلم تغفو حتى الساعة السادسة صباحاً؛ لانتظار شروق الشمس ذلك الوقت الذي تهدأ به جنون طائرات الحربية الإسرائيلية، موضحة أن تخطيها لذلك الأمر قد استغرق أسبوعاً كاملاً رافقه حالات من الفزع واضطرابات في النوم وعدة أمور أخرى كان من الصعب تجاوزها ضمن ليلة وضحاها.
وتضيف أمل موسى، أن سوء الأوضاع في قطاع غزة عامل ضغط نفسي إضافي كانقطاع الكهرباء لمدة عشرين ساعة وضعف الانترنت أو فصله في غالبية الأوقات عدا عن مشاكل المياه وأمور أخرى كان من الصعب تجاوزها في ظل الحالة النفسية السيئة، مكملة أن أكثر ما يرعبها كان اتصال أختها التي تسكن الولايات المتحدة الأمريكية في وقت لا تتوافر فيه الوسائل المساعدة على الاتصال فلا تجيبها، بالتالي يزداد القلق لدى الطرفين.
وتقول أمل موسى أن أي صوت مرتفع كخبط الباب أو أصوات عجلات السيارات قد يسبب رعب لها لأنها تتذكر في ذلك الوقت أصوات الصواريخ وجميع صور المجازر التي ارتُكبت بالقطاع وساكنيه، لافتة أنه بعد انتهاء العدوان رفضت التنزه مع صديقاتها لأنها شعرت أن أرواح الضحايا ستغضب إذا ما ضحكت، فاحترمت تحول المدينة الصغيرة لبيت عزاء كبير خلال أول ثلاثة أيام والتزمت منزلها.
أما داليا اليازجي البالغة من العمر (35) عاماً، تقول أنها ما زالت تبقي الإنارة مضاءة في غرفة أطفالها الأربعة ليلًا كي يهدؤوا ويستطيعوا النوم، وبالرغم من معرفتها أن نوم أطفالها على إضاءة قوية ليس بالشيء الصحي والذي سيسبب لهم أمراض واضطرابات على المدى البعيد إلا أنها لا تستطيع إطفائه خوفاً من عدم قدرتها على التخفيف من حالة الهلع والكوابيس التي ستصيب أحدهم بالتالي يستيقظ البقيه على صوته.
فلا تتوانى الأم عن قراءة القصص وممارسة الألعاب التي تساعد على حفظ توازنهم منها تمارين التنفس والاسترخاء التي علمتهم إياها مؤخراً مع احتوائها المستمر لتدريبهم على التخلص من الخوف والأصوات المرتفعة، منوهة إلى أن الأمور بدأت تتحسن شيئاً فشيء إلا أنها تخشى أن يحدث عدوان آخر وتضيع كل مجهوداتها مع أطفالها سدى، ليصبح انتظار الموت سيد الموقف.
رشا كحيل (24) عاماً، تقول العالم لا يدرك معنى أن يكون أول ما تلفظ به طفلة تبلغ من العمر سنتين "خائفة من الموت"، متسائلة ما أدرى تلك الطفلة البريئة بالموت، وتضيف أن الأمر استغرق وقت طويل تقريباً لتقنع ابنة أختها أنها أصبحت بأمان ولا موت قريب يلوح بالأفق، محدثةً إياها عن الحياة والبحر والألوان كي تتعلم كلمات جديدة تضيفها لقاموسها اللغوي الذي بدأ يتشكل حديثاً، بعيداً عن الكآبة التي تحول الأشخاص شيء فشيء لمرضى نفسيين. 
بينما ترجع رشا كحيل بالذاكرة لتحدثنا أن مشاهدتها لتفاصيل المجزرة التي نسفت بها الطائرات الإسرائيلية عمارتين سكنيتين متسببة بموت عائلتين بأكملهم هو ما لا تستطيع تجاوزه حتى اليوم، فالأصوات العالية واهتزاز المنزل بل وحتى أصوات الصواريخ ورائحة النار وصورتها خُيلت لها أنها بفيلم هوليدي من صنع السينما، لتؤكد لوكالتنا أنها غير مصدقة أنها على قيد الحياة وتجري ذلك الحوار معنا اليوم.
وتكمل أنها منذ انتهاء العدوان خرجت مرة واحدة من المنزل لكن مشاهدة الركام المتناثر في كل مكان دفعتها للبكاء، متسائلة كيف ستستطيع المدينة الضعيفة استعادة ما خسرته؟، وتقول أنها الآن تحاول تنظيم موعد نومها واقناع نفسها أن الأصوات العالية عادية وليست تمهيداً لسقوط صاروخ مع قراءة الكتب وممارسة بعض الرياضة التي تبعث على الاسترخاء.