تحرير الرقة... ولادة جديدة وقفزة تاريخية ونوعية في حياة المرأة

امرأة هزت بصوتها وبكائها وكلماتها كيان كل من شاهدها لحظة تحررهن من داعش في مدينة الرقة بشمال وشرق سوريا، لتصبح فيما بعد مربية للأجيال وتكسر جميع القيود التي تكبلها وتنهض من تحت الركام لتصبح صانعة قرار.

سيبيلييا الإبراهيم

الرقة ـ مع مضي سبعة أعوام على تحرير مدينة الرقة من مرتزقة داعش، التي يصادف ذكرى الإعلان الرسمي عنها الـ 20 من تشرين الأول/أكتوبر الجاري، تسعى النساء اللواتي كان لهن النصيب الأكبر من انتهاكات مرتزقة داعش للنهوض بواقعهن وإدارة مجتمعهن، لتتخلصن من العبودية التي عشنها.

 مع بدأ قوات سوريا الديمقراطية بحملات تحرير المناطق التي كانت تحت سيطرة مرتزقة داعش، كان أهالي كل من الطبقة والرقة ومنبج ودير الزور، ينتظرون أن يتم تحريرهم على أحر من الجمر، وخاصة النساء اللواتي ذقن الأمرين، وكن شاهدات على أبشع وأفظع الجرائم والانتهاكات، من بينهم مريم إبراهيم التي انتشر لها مقطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام، تظهر فيه وهي تبكي وتتساءل عن السبب الكامن وراء تأخر قوات سوريا الديمقراطية عن تحريرهم من المرتزقة.

عندما قصدت مريم إبراهيم قرية الهيشة التي تبعد عن مدينة الرقة قرابة 40 كم، عادت بذاكرتها إلى لحظة التحرر حيث توقف بها الزمن، لتعود تلك المشاهد القاسية التي عانت منها النساء إبان سيطرة المرتزقة على المدينة إلى مخيلتها وأمام ناظريها.

 

نقطة التحول في حياتها وحياة غيرها من النساء

تقول مريم إبراهيم أنه خلال سنوات سيطرة مرتزقة داعش على مدينة الرقة وما قبلها حيث كانت تعيش على الهامش في ظل القمع والعبودية، بينما اليوم تنعم بالحرية والعدل والمساواة والحب والسلام، وتمارس كافة حقوقها، مشيرةً إلى أن قرية الهيشة النقطة الفاصلة بين الماضي والحاضر "في هذه القرية استقبلنا قوات سوريا الديمقراطية بعد تحريرنا من المرتزقة، كانت بالنسبة لنا نحن النساء الولادة الجديدة".

وأوضحت أنها عندما التقت قوات سوريا الديمقراطية تذكرت أهم حادثتين في حياتها اللتان أثرتا على وضعها النفسي، إحداها قصة المرأة الإيزيدية التي ألقت بنفسها في النهر، والأخرى وفاة شقيقها إثر انفجار لغم به "إن لحظة لقائنا بقوات سوريا الديمقراطية لا توصف، لقد سعدت باستقبالهم لنا عندما قاموا باحتضان أطفالنا وتقديم المياه والطعام، لن أنسى تلك اللحظات ما دمت على قيد الحياة".

وعما قاسته وعاشته النساء في الرقة خلال سيطرة المرتزقة على المدينة تقول "في بداية سيطرة داعش على مدينة الرقة فرض على النساء الرداء الأسود، وحرمهن من حقوقهن، مع العلم أن المرأة حتى قبل سيطرة المرتزقة على المدينة كانت محرومة من حقوقها بسبب العادات والتقاليد البالية التي كانت سائدة"، مشيرةً إلى أنه "بالإضافة إلى فرض النقاب، مُنعت النساء من الخروج دون محرم، وفي الوقت الذين كان هم بدورهم يعانون من ظلم داعش، عندما يتم معاقبة إحدى النساء لعدم ارتدائها النقاب أو الزي الأسود أو خروجها دون محرم يتبرؤون منهن".

وأضافت "كان المرتزقة يقومون ببيع الإيزيديات اللواتي تم اختطافهن خلال الإبادة التي تعرضت لها شنكال؛ في أسواق النخاسة، لقد كنا نرى كيف يقومون بتعذيب النساء، وهو ما أثار الغضب في قلوبنا، إن اللواتي تملكن وعي كافي وقمن بتحليل ما جرى للإيزيديات ونساء الرقة كذلك، أدركن جيداً أنه لا يمكن لأحد أن يحارب داعش ما لم تكن لديه إرادة قوية".

 

شاهدة على انتحار امرأة إيزدية

ولفتت إلى أنها شهدت في إحدى الأيام كيف قام مرتزق من داعش بسبي الإيزيديات، وإهانتهن وحرمانهن من أطفالهن وذويهن "رأيت بأم عيني امرأة إيزدية وهي ترمي بنفسها من جسر الرقة في نهر الفرات عام 2014، لتتخلص من الظلم والتعذيب الذي تعرضت له، لقد أنهت حياتها لتعيش حرة مع الموت الأبدي، هذه الحادثة أثرت بي كثيراً على الرغم من أنني لا أعرف عنها شيء سوى أنها إيزيدية، وهذا كافٍ بالنسبة لي لأدرك جيداً ما كانت تعانيه، كانت امرأة حرة لم تقبل أن تكون عبدة أو سلعة لدى داعش، هذه المرأة خلقت لدي الحافز لأقاوم وأناضل إلى يومنا هذا"، مشيرةً إلى أن تلك الحادثة لم تؤثر عليها فقط، بل على عائلتها فابنها الذي كان لا يزال صغيراً في العمر شهد على الحادثة ولا يزال يتذكرها بدقة.

وحول سماعهم نبأ إعلان قوات سوريا الديمقراطية بدأ حملة "غضب الفرات" لتحرير الرقة وريفها في السادس من تشرين الثاني/نوفمبر عام 2016، أوضحت "عندما سمعنا نبأ بدأ الحملة أدركنا جيداً أنه حان وقت الخلاص، الخلاص من الظلم والتعذيب والقتل والسبي والرجم وجميع الانتهاكات، تلك الفرحة لا يمكن وصفها"، مضيفةً "عند قدوم قوات سوريا الديمقراطية، شاهدنا كيف النساء تحملن الأسلحة على أكتافهن وتقاومن وتحاربن داعش بشراسة، لقد رأيت شرارة الانتقام لشقيقاتهن في أعينهن، إن المرتزقة كانوا يخشون مواجهة وحدات حماية المرأة لذا كانوا يفضلون قتل أنفسهم من الموت على أيدي المقاتلات اللواتي قدن الجبهات".

 

بصوتها وكلماتها هزت كيان كل من شاهدها

وعن لحظة تحريرهم تقول مريم إبراهيم أنها عندما رأت المقاتلات وهن تتقدمن لتحريرهن، لم تكن قادرة على الانتظار، وفور تحريرهن سارعت للتحدث إلى مراسل فضائية روناهي متسائلةً عن الأسباب الكامنة وراء تأخرهم في تحريرهم، قائلةً "لا يهمنا شيء بعد الآن ما يهمنا هو خلاصنا مما مررنا به".

صوتها المبحوح وكلماتها المعبرة عن آلامها وفرحتها هزت كيان كل من شاهد مقطع الفيديو الذي انتشر عبر وسائل الإعلام، فإيماءة وجهها ودموعها المنهمرة وهي تنتقد قوات سوريا الديمقراطية على تأخرهم، أظهر مدى شوقهم وانتظارهم أن تخلصهم تلك القوات من الظلم الذي عاشوه.

وأشارت إلى أنها قالت تلك الكلمات من شدة حزنها على شقيقها الذي فقد حياته وهو في انتظار تحريرهم من داعش "عندما كنا نتواصل مع أهالينا في المناطق المحررة ونسمع كيف يتم استقبالهم من قبل قوات سوريا الديمقراطية، كانت الغصة تعتصر قلوبنا، ونتمنى أن يتم تحريرنا في أسرع وقت، وبالرغم من حزني في تلك اللحظة إلا أن الفرحة التي شعرت بها لا يمكن وصفها".

وروت تفاصيل ابتعادها عن مركز مدينة الرقة قائلةً "قبل عام من التحرير، توجهت مع عائلتي إلى قرية الهيشة لأننا كنا نعلم أن قوات سوريا الديمقراطية يقومون بتحرير القرى باتجاه مركز المدينة من تلك الجهة، بالطبع كانوا قد انتهوا من تحرير المناطق الشمالية، عندما تم استقبالنا من قبل تلك القوات، شعرت وكأنهم ملائكة على الأرض فهم يحملون رسالة محبة وسلام وعنوان للإنسانية، كانت زغاريد النساء تعلو السماء، ودموعنا لا تفارق وجوهنا، في تلك الدقائق لم نحتضن تلك القوات فحسب بل عانقنا الحرية كذلك".

 

التحرير... ولادة جديدة وقفزة تاريخية ونوعية في تاريخ المنطقة

ما عانته النساء في الرقة التي أعلن داعش خلال فترة سيطرته عليها عاصمة له، وقمعهم وظلمهم لهن، ولد نار الغضب في قلوبهن خاصة وأن الرجال في تلك المنطقة الذين كانوا في السابق يعتبرون أنفسهم المسؤولون عن النساء وحمايتهم، تخلوا عن نسائهم ولم يساندوهن عندما كن تتعرضن لأي شكل من أشكال العنف والانتهاك، خاصة وإن بلغ حد الاعتقال وإن كانت بذرائع واهية لا صحة لها، لذا فإن العديد منهن بعد تحرير مدينتهن ورؤيتهن كيف لنساء روج آفا تتقدمن صفوف المقاتلين، وتشاركن في الحرب ضد المرتزقة وتقاتلن في الصفوف الأولى خلال الجبهات، وساهمن في تحريرهن، انضممن إلى حركة حرية المرأة، كما أوضحت مريم إبراهيم.

وأضافت "أدركت النساء إن ما كان يقوله الرجال ويفرض عليهن من قيود وأنهم حماتهن، ذهب في مهب الريح، لقد رأينا ما فعله المرتزقة بالإيزيديات المختطفات وكيف يطاردون النساء ويقومون برجمهن واعتقالهن، وتأكدن من أنه إن لم تدافعن عن أنفسهن وحقوقهن لن يدافع عنهن أي أحد، وهي حقيقة على مجتمعنا والشرق الأوسط أجمعه أن يدركه، فحملات تحرير كانت تقودها النساء، إن المقاومة التي أبدتها وحدات حماية المرأة ونضالهن في سبيل تحرير نساء المناطق الأربعة، لا مثيل لها".

 

المرأة من العبودية إلى التحرر الفكري والجسدي

وأكدت على أن تحرير المدينة قبل سبع سنوات، شكل مرحلة انتقالية هامة في تاريخ المدينة والمرأة كذلك "مع تحرير الرقة بدأت الحياة شيئاً فشيئاً تعود إلى مسارها، حيث تم تأسيس الإدارة المدنية وتم إشراك المرأة في كافة المجالات على عكس ما كانت عليه سابقاً، لتبدأ بالمشاركة في صنع القرار وإدارة المدينة ولعب دورها في المجتمع الذي هي جزء منه".

وأوضحت أن النساء لا زلن تعانين نتيجة ما عشنه خلال الماضي القريب، فلا زلن تحتضن في صدورهن الأسى والألم والحزن، إلا أنهن تسعين بكل ما أوتين من قوة للتخلص من المرحلة السوداوية التي مررن بها، مشيرةً إلى أنهن تشهدن في الوقت الراهن تحركات للنساء تسعين من خلالها لكسر العادات والتقاليد البالية "القوة والإرادة التي تتحلى بها المرأة بعد التحرير ساهمت في تغيير نظرة المجتمع للنساء اللواتي الآن تأخذن دورهن ضمن كافة المؤسسات، لقد بدأ المجتمع من خلال التوعية، بتقبل وجود المرأة في مراكز صناعة القرار".

وحول بداية انضمامها للعمل ضمن الإدارة المدنية التابعة للإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، والذي يرتكز على نظام الرئاسة المشتركة "بعد تحرير وتأسيس الإدارة المدنية، انضممت للعمل في صفوفها حيث أنشأنا الكومينات وهي تعتبر أصغر خلية تتبع للإدارة، وعملت على إدارة إحداها، ومن ثم عملت في  مجلس الشعب، إلى أن تم تأسيس أول دار للمرأة فعملت في الدار، وفيما بعد أصبحت الرئيسة المشتركة لهيئة الشؤون الاجتماعية والعمل في الإدارة الذاتية الديمقراطية".

وحول الصعوبات التي واجهتها تقول "لا أنكر أنني في بداية تحرير المدينة واجهت الكثير من التحديات والمعوقات بسبب العادات والتقاليد البالية والمجتمع الذي كان لا يزال فكر مرتزقة داعش مترسخاً فيه، حيث كانت المرأة مستعبدة، إلا أنني استطعت تخطي كافة الصعوبات والعراقيل، بالإمكان القول أنه أصبح هناك اعتراف بدور المرأة في إدارة المجتمع ووضع الحلول للمشكلات التي تواجهه، لقد كان للتحرير وتأسيس الإدارة المدنية الديمقراطية وتطبيق مشروع الأمة الديمقراطية، الدور الأبرز في تخلص المرأة من العبودية والانتقال إلى مرحلة التحرر الفكري والجسدي".

ووجهت مريم إبراهيم رسالة لجميع النساء قائلةً "على نساء الرقة ألا تنسين ظلم داعش لهن، وما عانين منه بسببه، كن قويات وتحلين بالإرادة للتقدم والتطور ونشر مشروع الأمة الديمقراطية لأنه الحل الوحيد لكافة أزماتنا وقضايانا، لنبني أجيالاً حرة ديمقراطية تنعم بالعدالة والمساواة، ولنقضي على الذهنية الذكورية والعادات والتقاليد البالية التي تضعنا في قوالب نمطية".