شقيقتان تحاربان الفقد والإعاقة وسط حياة مأساوية فرضتها الحرب على غزة
الطفلتان ماريا وأنسام ريحان شاهدتين على مأساة فقدٍ وجرحٍ جسدي ونفسي، تختزلان في قصتهما حجم الكارثة الإنسانية التي ضربت قطاع غزة.

نغم كراجة
غزة ـ في زاوية نائية من شمال غرب مدينة غزة، تتعثر خطوات الطفلة ماريا ريحان (عشر سنوات) وشقيقتها أنسام (ثماني سنوات) فوق تراب الخيمة المهترئة التي باتت مأواهما الوحيد بعد غارة إسرائيلية قلبت حياتهما رأساً على عقب، لم تكن تلك الغارة مجرد ضربة عسكرية بل كانت نهاية عائلة كاملة قُطعت على أثرها أواصر الدم والحب، وتركت الشقيقتين تائهتين في متاهة الألم والخيبة.
في مخيم جباليا شمال القطاع حيث كانت تقيم العائلة في عمارة سكنية قديمة تبدد الأمان فجأة عندما وصلت أوامر تهديد من القوات الإسرائيلية، الأمر الذي دفع أفراد العائلة إلى النزوح مؤقتاً إلى الخارج انتظاراً لقصف محتمل.
القصف حطم جميع آمالهم
تقول الطفلة ماريا ريحان، والدموع تخونها أثناء سردها لتلك اللحظات المليئة بالخوف "سمعنا صوت الرعب يقترب، والجيش قال إنه سيقصف، فتركنا كل شيء خلفنا، أمي، أبي، وإخوتي… لم نكن ندرك أننا لن نعود".
غير أن القدر قرر عكس ما أُعلن، إذ تلقى السكان إشعاراً بعدم استهداف العمارة، وبدافع الاطمئنان عادت العائلات إلى منازلهم، ظناً منها أن الخطر قد زال لكن القصف الذي تلى ذلك جاء ليحطم كل آمالهم ويخطف من بينهم 20 فرداً من عائلة ماريا وأنسام بينهم والديهما وإخوتهما.
ماريا ريحان الطفلة التي لم تتجاوز عشر سنوات من عمرها، تحمل على عاتقها عبء فقدان بصرها بعد أن أفقدها القصف عينها اليمنى تماماً أما عينها اليسرى فترى فقط شعاعاً خافتاً بالكاد يُمكن اعتباره بصراً "لا أستطيع أن أرى سوى ظلال وحتى هذه الظلال باهتة، أحلم أن أعود لأرى أختي التي تبقت لي، وأكمل دراستي لأصبح طبيبة مثل التي تعالجني".
تحمل هذه الطفلة مزيجاً من الألم والأمل ورغم ذلك تبدو حياتها مليئة بالتحديات اليومية البسيطة التي تعقدت بشكل كبير بعد إصابتها فحتى القيام بأبسط المهام كالدخول إلى المرحاض أو تناول الطعام بات مستحيلاً دون مساعدة مستمرة من عمها أو شقيقتها.
"أحلم أن أركض من جديد"
وفي الجانب الآخر، أنسام ريحان التي تحمل جرحاً في قدمها اليسرى رافقها الألم إلى داخل المستشفى حيث أجريت لها عملية تركيب "بلاتين" حديدي على عظم قدمها وهو مصطلح غريب على مسامعها الصغيرة ولكن لم تفهمه بل عرفت فقط أنه قد يجعلها تحتاج إلى العكاز للمشي.
تعبر أنسام ريحان عن ألمها بعينين مليئتين بالحزن "كنت ألعب وأركض في المخيم كأي طفلة، والآن أعتمد على عكاز، أحلم أن أركض من جديد مع صديقتي، أريد أن أعود إلى حياتي القديمة".
هذه الحكاية ليست منفردة، فخلال حرب السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، ارتفعت حصيلة الضحايا في قطاع غزة إلى أرقام مأساوية حيث أودت بحياة أكثر من 61,400 فلسطيني وفلسطينية من بينهم 15,600 طفل فيما تجاوز عدد المصابين 153,000 إصابة بحسب وزارة الصحة الفلسطينية وتقارير الأمم المتحدة.
وشكل المدنيون نحو 80% من إجمالي القتلى، مع تسجيل وفاة المئات بسبب المجاعة وسوء الرعاية الصحية في ظل دخول 14% فقط من المساعدات الإنسانية المطلوبة إلى القطاع الأمر الذي أدى إلى تدمير البنية التحتية وتعطيل الخدمات الأساسية بما في ذلك تعطيل 352 مدرسة وتوقف التعليم عن آلاف الطلاب، هذه الأرقام الصادمة تبرز حجم الكارثة الإنسانية التي يعيشها سكان غزة لا سيما الأطفال الذين يشكلون النسبة الأكبر من الضحايا.
"الوجه الحقيقي للكارثة الإنسانية"
ماريا وأنسام ليستا فقط ضحيتين بين آلاف بل تمثلان الوجه الحقيقي للكارثة الإنسانية حيث اختلطت فصول المعاناة اليومية بتحديات شديدة بعد تدمير البنية التحتية والخدمات الأساسية، وبحسب الأمم المتحدة أكثر من 1.4 مليون نازح داخلياً في غزة يعانون من أوضاع مأساوية في مراكز الإيواء المؤقتة، وتعيش غالبية العائلات في خيام بلا ماء أو كهرباء أو خدمات صحية لائقة.
في خيمتهن البسيطة التي لا تحمي سوى من الشمس والرطوبة تحاول ماريا ريحان التأقلم مع واقعها الجديد، "أستعين بشقيقتي أنسام عندما أشعر بالعطش أو الجوع هي عيني الآن، وهي يدي"، تهمس الطفلة التي لا تستطيع مغادرة الخيمة دون مساعدة بينما تغزل أنسام حول أحلامهما الكبيرة رغم الألم "نتمنى فقط أن تنتهي الحرب لنعود إلى بيوتنا، ندرس، نلعب، نعيش مثل باقي الأطفال".
ورغم كل المآسي، لا تزال ماريا ريحان تعيش حلماً بسيطاً لا يخبو هو أن تستعيد بصرها، الأطباء في غزة لا يمتلكون الإمكانيات لإجراء العمليات التي قد تعيد إليها جزءاً من حياتها، ويكاد الأمل الوحيد يكمن في السفر للخارج لتلقي العلاج المناسب، وهو أمر صعب للغاية وسط الحصار وانعدام التصاريح.
الصمود في وجه الألم والدمار
كما تشرح أنسام ريحان ببراءة الطفولة وصدقها "أريد أن أركض وألعب، وأعود إلى المدرسة، وأعيش كأي طفلة في سني". هذه الحكاية الموجعة تعكس مأساة آلاف الأطفال الذين حُرموا من طفولتهم بسبب نزاع مسلح لا يعرف الرحمة ولكنها تبرز أيضاً قوة الصمود في وجه الألم والدمار.
في ظل الظروف الراهنة، على المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية تكثيف جهودها لتقديم الدعم الطبي والنفسي والإنساني لهؤلاء الأطفال الذين باتوا يواجهون حياة على حافة اليأس.
في النهاية، تبقى ماريا ريحان وشقيقتها رمزاً للبراءة المهدورة، وأملاً بسيطاً يتشبث بالحياة رغم كل المصاعب، فتظل أصواتهن الصغيرة ترتجف بين خيوط الأمل والحزن، تصرخ من أجل غد أفضل ليرى أطفال غزة ما تخبئه الأيام لهم.