قصة ألم وفقدان... النازحات في غزة تدفعن فاتورة باهظة

تعاني الفلسطينية صفاء طافش ضغوطاً نفسية جراء الأوضاع الصعبة والمهينة التي تعيشها في ظل الحرب الدامية المستمرة على قطاع غزة.

نغم كراجة

غزة ـ "بعد عمل دام لأكثر من سبعة وثلاثين عام كقابلة في مستشفيات قطاع غزة، عشت خلالها بين أبنائي وأحفادي، اليوم فقدت نصف عائلتي والنصف الآخر مشرد في مراكز الإيواء وسط بيئة ملوثة وخالية من أدنى المقومات المعيشية، إلى أين وصل بنا الحال؟" هكذا وصفت صفاء طافش وضعها بعد الحرب بنبرة مكلومة.

الحرب بين القوات الإسرائيلية وحركة حماس المستمرة منذ سبعة أشهر، تسببت بكارثة إنسانية ونزوح أكثر من 85% من سكان القطاع وتدمير البنية التحتية خاصة القطاع الصحي الذي ترك آلاف المصابين والمرضى دون علاج.

تقول الستينية صفاء طافش النازحة من حي الشيخ رضوان إلى مركز إيواء في شمال القطاع "رغم تهديد وضغط القوات الإسرائيلية المتواصل بإخلاء مناطق الشمال والتوجه جنوباً وترهيبنا بالصواريخ والأحزمة النارية إلا أنني أصريت على الصمود في منزلي برفقة عائلتي ظناً أن الحرب ستنتهي في أي لحظة ولكن ما حدث كان أقسى مما تصورت".

وحول تفاصيل ليلة استهداف منزلها أوضحت "كنا ننام في صالون المنزل، الذي على الرغم من ضيق مساحته استوعب خمسين نازحاً، اعتقدنا أنه على الأقل آمن في حال باغتنا استهداف جوي من ناحية الشارع العام لكن الاعتقاد لم يكن في محله، طلبت من حفيدتي الصغرى مساء يوم السادس عشر من تشرين الثاني أن تطفئ الإنارة لنحاول النوم، وفي غضون ثوانِ قبل أن تصل حتى نهاية الصالون داهمنا صاروخ غادر دون سابق إنذار من شدته طارت حفيدتي وتناثرت أشلائها في زوايا البيت، وجلسنا نحو ثلث ساعة نبحث عنها".

تكمل وعيناها تنهمر بالدموع والحسرة "كان في البيت نحو خمسين نازح من أسرتي غالبيتهم مصابين قمت بإسعافهم بقدر ما أستطيع، توفت ابنتي في مشهد دامي بعد أن عجزت عن مداواتها وإنقاذ آخر أنفاسها تاركة وراءها ثلاث أبناء يتامى أكبرهم لا يتجاوز تسع سنوات كلما رأيتهم أجهش من شدة البكاء وأتذكر الحدث، لا يتحمل قلبي فراق ابنتي من جهة، وأحفادي الذي أصبحوا يتامى في سن مبكرة من جهة أخرى".

أثناء تقديمها الإسعافات الأولية للمصابين من النازحين في منزلها الذي دمرته القوات الإسرائيلية لم تكن تعرف أنها تنزف جراء إصابتها في فخذها من الجهة الخلفية "حين ذهبت إلى غرفة منزلي المتبقية بعد القصف، شعرت بغثيان شديد ولا أستطيع الوقوف على قدمي والعباءة التي كنت أرتديها ثقيلة على جسدي ظننت أنها ممتلئة بالمياه وليس دماء لكن سرعان ما اكتشفت ابنتي الوسطى أنني أنزف وهناك فتحة دائرية ودامية في فخذي نتيجة الشظايا".

لم تتمكن حين زاد وضعها الصحي سوءاً من الوصول لأقرب مستشفى أو عيادة متخصصة بسبب القصف الإسرائيلي المتواصل على المنطقة ليلتها فاضطرت للجلوس في منزل إحدى الجيران هي ومن تبقى من أفراد عائلتها النازحين حتى تشرق شمس الصباح "بقيت ساعات الليل أنزف حتى قمت بوضع كمية كبيرة من القطن الطبي داخل فتحة الفخذ لوقف النزيف، لم يكن أمامي خيار آخر".

عندما حلّ الصباح على عائلة صفاء طافش قرروا الذهاب لأي مركز إيواء قريب من منزلهم المدمر للاحتماء به والتفكير بعدها ماذا يفعلون هل سيتوجهون للجنوب بعدما قصفت القوات الإسرائيلية المنزل فوق رؤوسهم أم سيمكثون في الشمال المنكوب "اقترح نجلي أن ننزح للجنوب لكنني رفضت مرة أخرى خوفاً من طريق شارع الرشيد الذي يزعم العدو أنه آمن ويغدر بالمدنيين وخشيت أن أفقد من تبقى من أسرتي مرة أخرى".

وأضافت "مكثت في إحدى مدارس الشمال أكثر من خمس أشهر ودائماً أتساءل متى سينتهي هذا الكابوس؟، بعدما كنت أجلب الطعام جاهزاً إلى منزلي، وأقوم بإطعام ومساعدة المحتاجين، الآن أقف في طابور تسليم المساعدات، ونبحث عن مصدر دخل نجني منه ثمن القوت اليومي للأبناء والأحفاد، لا يمكن وصف شعور الذل والعجز في آن واحد".

وأشارت إلى أنها لا تحصل على حقها بالكامل عند استلام المساعدات بسبب سياسة التمييز والقمع التي تمارسها الطواقم الإدارية في مراكز الايواء إلى جانب شعورها بالذل والإهانة نظراً لطريقة تعاملهم الغير لائقة مع النازحين/ات.

تسرح في حديثها الذي يسوده عبق الماضي "كنت أعود إلى المنزل بعد دوام سبعة ساعات وكل شيء يحضر لي بسهولة، لم نعرف الجوع والفقر والقهر يوماً، من يصدق أننا تجرعنا كل هذه المعاناة طيلة السبعة أشهر".

كل فترة وأخرى تزور صفاء طافش منزلها المدمر وتقف على جزء من أطلاله وتصيبها نوبة بكاء وحسرة "كلما ذهبت لرؤية بيتي الذي تعبت على بناء كل شبر به أنهار من الحزن، حتى ابنتي التي أتت إليه نازحة قتلت به، لن أشفى أبداً من مرارة الفقدان، فالأرواح التي ذهبت لن تعوض أبداً"، مبينة أنها حصلت في الفترة الأخيرة على عدة جلسات دعم نفسي وإغاثي مع مثيلاتها في مركز الإيواء وساهم ذلك في تخفيف حدة الضغوطات النفسية وإعادة دمجها مع البيئة المحيطة بها.

ولفتت إلى أن النساء الفلسطينيات برغم القوة والصمود وسلسلة التضحيات التي قدمنّها إلا أنهن دفعن فاتورة باهظة في هذه الحرب، مناشدة المجتمعات الدولية بالعمل الجاد والمكثف لإنهاء الصراع واستعادة السلام في المنطقة.