نساء غزة... حياة على هامش الأمل والخيمة وطن بديل
في ظل أهوال الحرب وقسوتها، تنسج النساء حكايات صمود تتحدى الألم، في معركة يومية للحفاظ على الحياة والكرامة.
نغم كراجة
غزة ـ وسط أزيز الطائرات ودوي القذائف، تتحول حياة الكثيرين في مناطق النزاعات إلى رحلة شاقة مليئة بالتحديات، في خضم هذه الظروف القاسية تتصدر النساء الصفوف الأولى في معركة البقاء، ويتحملن أعباءً تفوق طاقاتهن، ويدفعن ثمناً باهظاً للحرب على كل المستويات، بين النزوح، وفقدان المأوى، وصعوبة تأمين الاحتياجات الأساسية، تكتب يوميات تظهر مدى صمود الإنسان في وجه المحن.
في أحد أركان الحياة التي باتت تختزل في محاولات للبقاء على قيد الكرامة، تعيش سهى جعرور المرأة الثلاثينية، فصلاً من فصول النضال الإنساني، فقدت منزلها وحياتها المستقرة وجسدت حكاية عن التحدي والإصرار على الحياة وسط رماد الحرب وعن الشجاعة التي تتجلى عندما يصبح كل شيء ضدك.
"لم يكن الفرار خياراً سهلاً"
سُهى جعرور التي نزح أهلها بالكامل إلى مناطق الجنوب مع تصاعد القصف في مدينة غزة، قررت البقاء في مدينتها رغم المخاطر المحدقة، كان قرارها بالبقاء مدفوعاً بواجبها تجاه خالتها المُقعدة التي لم يكن بإمكانها تركها وحيدة في مواجهة مصير مجهول، ووسط القذائف التي تنهال على كل شبر في غزة، أدركت أن الطريق إلى الجنوب محفوف بالمخاطر وتقول "لم يكن الفرار خياراً سهلاً، فالطريق نفسه قد يكون النهاية".
لم يمض وقت طويل حتى لامس القصف جدران حياتها، إذ دُمّر المبنى السكني الذي تقطنه جزئياً، وأصيبت بجروح أجبرتها على مواجهة واقع جديد، فمنزلها الذي كان بالكاد يصلح للسكن لم يعد مكاناً صالحاً للحياة، لتضطر للبحث عن مأوى جديد يحميها وخالتها من البرد والعواصف التي لا تعرف سوى تدمير كل ما في طريقها.
الخيمة: وطنٌ بديل
وقالت إنه "بعد محاولات شاقة استمرت أسابيع، تمكنت أخيراً من الحصول على خيمة صغيرة تأويني بزاوية مهملة وسط ساحة مكتظة بالخيام، نصبت خيمتي المحاطة بحكايات بؤس لا تختلف عن حكايتي، هناك حيث الحلم أصبح رفاهية، أحاول أن أبني عالماً مصغّراً يشبه الاستقرار".
وأشارت إلى أنها حتى داخل تلك الخيمة التي وصفتها بـ "الوطن البديل"، تعاني من أبسط الضروريات، فتعبئة أوعية المياه التي تحتاجها للطهي والغسيل تحولت إلى مهمة يومية شاقة في ظل غياب الدعم أو أي معيل يسهم في تخفيف العبء الثقيل.
بسطة صغيرة: حياة على هامش الأمل
لم تستسلم سُهى جعرور لضغوط الحياة التي أحاطت بها من كل جانب بل اختارت أن تقف شامخة وسط الركام، وافتتحت بسطة صغيرة لبيع الحلوى وبعض حاجيات الأطفال، عملها كان وسيلة لتوفير قوت يومها وتأمين احتياجاتها الأساسية، ومع ذلك كان الربح بالكاد يغطي أبسط المتطلبات لكنه كان كافياً ليبقيها على قيد الحياة "لا أريد أن أمد يدي لأحد، أعمل ليل نهار كي أعيش بكرامة وأساعد والديّ، رغم ضيق الحال"، تلك الكلمات تعكس جوهر إرادة لم تُهزم رغم كل ما مرّت به، ورغم أن دخلها شحيح، تحاول أن ترسل مبلغاً بسيطاً لعائلتها النازحة في الجنوب، علها تخفف عنهم ثقل الحاجة.
سُهى جعرور ليست الوحيدة التي تعاني، إنما هي مثال على ما تعانيه النساء في قطاع غزة، حيث الحرب لا ترحم أحداً، في مجتمع يُلقي بثقله على المرأة كمعيلة ومُضحية، تتحمل العبء الأكبر في مواجهة أوضاع اقتصادية واجتماعية متدهورة.
النساء اللواتي كنّ يوماً ما عماد أسرهن وأركان بيوتهن، يجدن أنفسهن الآن في مواجهة مباشرة مع واقع مُهين "نعيش وضعاً كارثياً، النساء أصبحن أكثر فئات المجتمع تهميشاً ومعظمهن يُجبرن على العمل في ظروف قاسية، يُقدن أسراً بمفردهن، ويعشن في ظل غياب تام للدعم النفسي والاجتماع"، وهو ما يعمق الأزمة الإنسانية، حيث تتزايد معدلات الفقر والبطالة بين النساء بشكل خاص، ويُضاف إلى ذلك ضعف خدمات الإغاثة وعدم كفايتها، مما يُلقي بأعباء إضافية على كاهلهن، ورغم ذلك تتشبثن بالغريزة الإنسانية للبقاء، مسجلات فصولاً جديدة من الصبر والصمود.
العيش بكرامة أولوية رغم القهر
منذ أن افتقدت سُهى جعرور حياتها المستقرة، تعيش كل يوم في معركة للبقاء، ورغم أنها كانت في يوم من الأيام تعيش حياة مرفهة محاطة بالأمان، تتذكر كيف كانت الأمور مختلفة تماماً "لم أكن أتخيل يوماً أنني سأقف على بسطة صغيرة أو أبحث عن اسمي في الطرود الإغاثية، فقد كانت كل طلباتي تتحقق دون عناء".
لكن، في ظل هذا الواقع الجديد، اختارت أن ترفع راية التحدي لا اليأس، ورغم أن الحياة على الهامش صعبة ومليئة بالمذلة إلا أن شعور الكبرياء يمنحها القوة لتكمل طريقها "أريد أن أعيش بكرامة، ولا أحتاج سوى فرصة لأثبت أنني أستطيع"، بهذه الجملة تختم سهى جعرور حكايتها، لتترك وراءها درساً إنسانياً في التحدي، وتذكر الجميع بأن المرأة هي عمود المجتمعات حتى عندما تترك وحدها في مواجهة العاصفة.
قصص الآلاف من النساء في قطاع غزة تحتاج إلى أكثر من مجرد تضامن أو تعاطف، ودعوة للوقوف معهن لدعمهن بطرق حقيقية وفعّالة، كما تحتاج هذه الأرواح المرهقة إلى مشاريع تعيد لهن الحياة إلى مبادرات تسد الاحتياجات الأساسية، وإلى صوت يطالب بحقوقهن في ظل مجتمع يبدو أنه اعتاد على رؤية هذه المآسي دون أن يتحرك.