من ملاذ للناجيات إلى مركز مهدد بالإغلاق... "الأمان علمة" على حافة الانطفاء

يواجه مركز "الأمان علمة" خطر الإغلاق نتيجة عدم التزام الجهات الرسمية بالالتزامات المالية، الأمر الذي سيؤدي إلى حرمان عشرات النساء والأطفال من ملاذ آمن، في ظل تزايد حالات العنف.

إخلاص حمروني

تونس ـ في منطقة تُعدّ من أكثر جهات تونس هشاشة وتهميشاً، ووسط تصاعد غير مسبوق للعنف ضد النساء، برز مركز "الأمان علمة" بالقصرين كملاذ آمن وضروري لعشرات النساء الناجيات وأطفالهن، لكن هذا الملاذ الذي شكّل طوق نجاة للكثيرات، يواجه اليوم خطر الإغلاق، في مشهد يجسد المفارقة المؤلمة بين الجهود الميدانية الحقيقية والدعم المؤسسي الغائب.

هذا الملف يرصد الدور المحوري الذي لعبه المركز منذ انطلاقه، ويوثّق بصوت القائمات عليه والناشطات، تفاصيل المعركة اليومية من أجل استمرارية فضاء أصبح حيوياً في معادلة حماية النساء من العنف، فكيف بدأ كل شيء؟ ولماذا توقف الدعم؟ وهل يمكن إنقاذ المركز قبل أن تُطفأ أنواره نهائياً؟

قالت لواحظ سمعلي، مديرة مركز "الأمان علمة" لإيواء النساء ضحايا العنف والأطفال المرافقين لهن "بدأنا في تنفيذ شراكة مع المندوبية الجهوية لشؤون المرأة والأسرة والطفولة وكبار السن بالقصرين، وذلك في إطار تسيير مركز الإيواء".

وأضافت "مركز الإيواء الخاص بنا دخل حيّز الخدمة الفعلية واستقبال النساء منذ شهر كانون الثاني 2023، وخلال الفترة الممتدة من بداية عام 2023 إلى حدود كانون الأول 2024، تم إيواء 47 امرأة و32 طفلاً مرافقاً لأمهاتهم، من بينهم حتى قاصدون، نظراً لغياب وحدة مخصصة لإيواء الأطفال في الجهة، فتكفلنا نحن بهذا الدور داخل المركز".

وأشارت إلى أن طاقة الاستيعاب في مركز الإيواء تبلغ ثمانية مقيمين، وتشمل مجموعة الخدمات التي يقدّمها المركز، الإيواء، الإعاشة، الرعاية النفسية، الرعاية القانونية، إلى جانب الرعاية الطبية وشبه الطبية، هذه الخدمات تُقدَّم ضمن مسار تعهد يتغير حسب وضع كل امرأة ووفقاً لاحتياجاتها الخاصة.

 

 

إشكاليات مادية بالأساس

وعن معضلة هذا المركز، تابعت "اليوم نواجه تهديداً حقيقياً بإغلاق المركز، بسبب عدم التزام الشريك المالي، المتمثل في المندوبية الجهوية لشؤون المرأة، بتنفيذ ما نصت عليه الاتفاقية. منذ كانون الأول 2024، لم يتم سداد مستحقاتنا المتعلقة بكراء المقر وقد وجدنا أنفسنا أمام القضاء، بعد أن رفع صاحب العقار قضية استعجالية ضد الجمعية لاسترجاع مستحقاته، كما تم قطع التيار الكهربائي عن المركز يوم 21 كانون الثاني الماضي".

وأكدت أنه منذ كانون الثاني/يناير الماضي، تمت مراسلة الجهات المعنية باستمرار، دون أي تحرّك يُذكر من السلطة الجهوية أو المركزية قائلة "أقول هذا عن بيّنة، لأن لدينا كل المراسلات، بما في ذلك البريد الإلكتروني الرسمي".

وأضافت "حاولنا بكل الطرق الممكنة، عبر النقاش والتفاوض والسعي لإصلاح ما يمكن إصلاحه وكانت الحجة المقدّمة من المندوب أن الجمعية لم تلتزم ببنود الاتفاقية من حيث توفير منح الإطار العامل، وسداد معاليم الكراء، وكذلك خلاص المستحقات تجاه الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، لكن هذه النقاط الثلاث لا تدخل ضمن نفس الاتفاقية، وهي مسألة يعلمها السيد المندوب".

وأوضحت لواحظ سمعلي أن الجمعية حصلت على ثلاث دفعات من الميزانية بقيمة 120 مليون، وكانت كل عملية صرف مرفقة بالتقارير المالية والأدبية، إلى جانب المؤيدات سواء كانت لفائدة الإطار العامل أو معاليم الكراء أو حتى للمساهمات الاجتماعية، كلها مبررة ومضمنة في الاتفاقية التي تنص على التشغيل وفقاً للقانون الجاري به العمل، أي بضرورة التغطية الاجتماعية.

وتابعت "نساء القصرين في حاجة ماسة إلى مركز إيواء يساهم في الحد من العنف المسلط عليهن، وهو آلية للحماية، والدعم، والتوعية"، محذرة "إذا تم إغلاق المركز، فستكون خسارة كبيرة جداً، أولاً للنساء، وثانياً للأطفال المرافقين لأمهاتهم، لأنهن سيفقدن الدعم والحماية".

وأكدت أن الجمعية لن تغلق هذا المركز، بل ستواصل العمل على بقائه، وستسعى إلى توسيع طاقة استيعابه، والبحث عن سبل تمويل أخرى، سواء عمومية أو دولية، لأن هدفها الحفاظ على هذا الفضاء كمكسب للنساء وكمركز للجمعية تناضل بواسطته من أجل حقوق ضحايا العنف اللواتي سبق ومتعن بخدمات هذا المركز خدمات كبيرة لنساء الجهة".

وأشارت إلى أن "وتيرة العنف ما تزال في ارتفاع، حيث قتلت مؤخراً ثلاث نساء في ظرف 48 ساعة، وهذا لا يمكن أن يُعتبر سوى مؤشّر يفرض علينا العمل على دعم مركز الإيواء، والبحث عن آليات لضمان استمراريته واستقلاليته المالية".

 

أمل جديد

مريم بن منصور امرأة من محافظة القصرين كانت لها تجربة مع مركز "الأمان علمة"، أكدت في شهادتها أنها عاشت لفترة طويلة في ظلال العنف والخوف المستمر، حيث لم يكن لها ملجأ أو ملاذ تلوذ إليه، كانت تتعرض للعنف النفسي والجسدي بشكل يومي، ولم تجد من يسمعها أو يفهم معاناتها، حتى داخل عائلتها رفضت مساعدتها بدافع الخوف من وصمة العار أو الفضيحة الاجتماعية.

وقالت "حين سمعت عن مركز 'الأمان علمة' في القصرين، شعرت بالتردد والخوف في البداية، فقد كانت مخاوفي من المجهول والتعرض للحكم والانتقاد كبيرة لكن مع الوقت، قررت أن أطلب المساعدة ومنذ اللحظة التي دخلت فيها المركز، شعرتُ بأن هناك أملاً جديداً ينبعث في حياتي، شعرت بالأمان لأول مرة منذ سنوات طويلة".

وأضافت أنه في المركز، لم تكن وحدها، بل وجدت فريقاً متكاملاً قدم لها الدعم النفسي والقانوني، واهتم بطفلها الذي رافقها طوال هذه الرحلة الصعبة، ولم يكن الدعم مقتصراً على توفير مأوى فقط، بل شمل كل جانب من جوانب حياتها التي تحطمت بسبب العنف، وكانت هناك جلسات نفسية ساعدتها على استعادة ثقتها بنفسها، وإجراءات قانونية قادت إلى حماية حقيقية لها ولطفلها.

ولفتت إلى أنه "حين أسمع عن التهديدات التي تواجه هذا المركز، أشعر بخوف شديد وحزن عميق. فإغلاق هذا المركز يعني قطع أمل كثير من النساء اللواتي يعانين في صمت، ولن يجدن مكاناً يلجأن إليه، ولن يتلقين الدعم الذي كان سبباً في إنقاذ حياتهن وحياة أطفالهن. إنه ليس مجرد مكان لإيواء النساء، بل هو ملاذ أمان، وحصن حماية، ونقطة انطلاق نحو حياة جديدة خالية من العنف".

 

"لا لإغلاق هذا المركز... نعم لتوسيع نشاطاته"

رحمة الفالحي، الناشطة الحقوقية في مجال المرأة، قالت "لدينا في الجهة مركزيّ إيواء فقط، لكن مع الأسف، فإن طاقة استيعابهما ضعيفة جداً، لا تتجاوز 13 سريراً مخصصاً للنساء المعرضات للعنف".

وأضافت أن القصرين، باعتبارها ولاية كبيرة وتتضمن 13 معتمدية، شهدت خلال السنوات الأخيرة، وخاصة منذ جائحة كورونا، تزايداً ملحوظاً في ظاهرة العنف، شأنها شأن بقية ولايات تونس، ومن هنا ترى أن العدد المحدود للأسرة لا يتماشى مع حجم الطلب، خصوصاً أن النساء اللاتي يأتين إلى هذه المراكز لا يأتين بمفردهن، بل غالباً ما يصحبن أطفالهن، وهو ما يجعل من الصعب استقبال حالات إضافية قد تكون أكثر خطورة وحرجاً.

وأشارت إلى نقطة ثانية وصفتها بالمفصلية، وهي "ضرورة ضمان جودة الخدمات المقدّمة، وضمان توفر يد عاملة مختصة في هذا المجال، لأن العاملين فيه غالباً ما يتقاضون منحاً بسيطة لا تضمن حتى أبسط حقوقهم وهذا يؤثر سلباً على تحفيزهم لأداء مهامهم، رغم أنها تُعد من أسمى الخدمات الاجتماعية".

كما شددت على أهمية توفير الدعم النفسي للعاملين والعاملات في هذه المراكز، وقالت "هؤلاء الأشخاص يتعاملون يومياً وبشكل مباشر مع النساء ضحايا العنف، ومع الأطفال المرافقين لهن، وهم يتعرضون باستمرار لطاقة سلبية نتيجة سماعهم لشهادات صادمة ومؤلمة. من الضروري تمكينهم من حصص دعم نفسي منتظمة، وتحسين ظروفهم المعيشية، حتى يتمكنوا من مواصلة العمل بكفاءة وإنسانية".

وأكدت رحمة الفالحي أنه من المهم جداً تثمين دور مثل هذه المراكز، خاصة في ظل غياب مراكز إيواء حكومية فعالة لأن هذه المراكز تُدار بالشراكة مع الحكومة، وتندرج تحت إشراف المندوبيات الجهوية لشؤون المرأة، إلا أن إدارتها تبقى في أغلب الأحيان من مسؤولية الجمعيات.

وأوضحت أن دور الجمعيات كان دائماً ريادياً في المبادرات المتعلقة بحماية النساء، لكن في ظل غياب مؤسسات رسمية قادرة على التكفل الكامل بهذا الدور، يجب أن تتحمّل الحكومة جزءاً من المسؤولية على الأقل، سواء عبر دعم مركز واحد بالكامل، أو من خلال توسيع طاقة الاستيعاب، وتحسين مستوى التدريب، وتوفير التحفيز الكافي للعاملين.

وتابعت "نحن نعلم جيداً حجم الجهود التي تبذلها العاملات في هذه المراكز، خاصة في ولاية مثل القصرين، حيث الظروف صعبة، والنظرة المجتمعية إلى المرأة العاملة ليلاً لا تزال قاصرة وسلبية. العاملات في مراكز الإيواء يعملن لساعات طويلة، ويتحمّلن مسؤوليات جسيمة في ظل موارد محدودة"، لافتةً في ختام حديثها إلى أن الوضع لا يتطلب إغلاق هذا المركز بل على العكس توسيع نشاطه.