"لم أتقاعد من الحياة"... حكاية امرأة ترفض أن تُوضع على الرف كالأوراق
في مجتمع لا يزال ينظر إلى التقاعد كمرحلة خفوت وانزواء، تقف المرأة الليبية أمام تحدٍّ وجوديٍّ جديد، بعد سنوات من العطاء المهني والعمل المتواصل، لا يقتصر هذا التحوّل على تغير الروتين اليومي، بل يمتدّ ليطال الهوية، والمكانة، والشعور بالجدوى.

ابتسام اغفير
بنغازي ـ رغم مرور أكثر من عشر سنوات على تقاعدها من العمل الإداري، لا تزال الإذاعية الليبية عزيزة عبد المحسن ترى نفسها امرأة فاعلة، تفيض حيويةً وتشتعل شغفاً بالعمل، تؤمن بأن التقاعد ليس نهاية بل بداية أخرى لحياة يمكن أن تُعاش بذات النبض، لكن بأدوات مختلفة.
"الإذاعة لم تتخلَّ عني يوماً، ولكن الجامعة فعلت"، هكذا تقول عزيزة عبد المحسن بمرارة مختلطة بالفخر، وهي تستعرض حكايتها في مزيج صادق بين الألم والامتنان.
تتحدث عزيزة عبد المحسن عن تفاصيل ما بعد التقاعد، عن الوحدة، والخذلان، والانتماء الذي لا يُقابل بالمثل، لكنها تتحدث أيضاً عن الحب... حب المهنة، الناس، والوطن.
وتقول "تقاعدت منذ عشر سنوات، وعمري الآن سبعون عاماً، ورغم أن البعض يلقبونني بالإعلامية، إلا أنني أفضل أن يُقال عني (إذاعية)، لأني لم أُمارس كل أشكال الإعلام كي أستحق ذلك اللقب، صحيح أنني أعددت برامج وكتبت مقدمات لها أثر طيب، لكن "الميكروفون" الإذاعي هو الأقرب إلى قلبي".
التقاعد القسري ووجع الخذلان
عن شعورها بعد الإحالة إلى التقاعد، تقول إن روتين الحياة انقلب رأساً على عقب "الحياة تغيرت تماماً، ليس فقط بسبب التقاعد، ولكن بسبب الظروف التي عاشتها ليبيا في تلك الفترة، كانت البلاد على صفيح ساخن، ولم يكن هناك التزام كامل بالعمل، فالكثير منا توقف عن الذهاب لمقر العمل بشكل منتظم رغم أننا لم نكن رسمياً متقاعدين بعد".
إجراءات التقاعد نفسها لم تكن سهلة كما توضح "استغرقت قرابة ستة أشهر رغم أنها كان يُفترض أن تُستكمل في شهرين، وكل ذلك بسبب الظروف وصعوبة الإجراءات".
أما عن إحساسها بعد التقاعد، فتصفه بكلمات حزينة "ليست أجمل فترات حياتي، شعرت وكأنني وُضعت على الرف، المرأة تتأثر أكثر من الرجل بالتقاعد، لأنها تعتاد الخروج اليومي والعمل والتواصل مع الناس، كنت أعمل في إدارة أعضاء هيئة التدريس، وكان من دواعي سروري أن أقدم لهم الخدمات، وكنت أراهم عابري سبيل، أقدّم لهم ما أستطيع، وهم بدورهم يقدّمون لنا المعرفة".
من الجامعة إلى الإذاعة... حكاية وفاء لم تُقابل بالمثل
تقول عزيزة عبد المحسن إن ظرفها الاجتماعي اضطرها إلى ترك العمل الإداري والاتجاه إلى المجال الإعلامي بشكل كامل، فعملت في صحيفة "قاريونس"، وكتبت عموداً بعنوان "مؤلف وكتاب" تستعرض فيه المؤلف وتتناول أبرز ما جاء في الكتاب.
وتستذكر بحب صفحة "القراء يكتبون" التي أشرفت عليها "كانت متعة عظيمة أن أتجول في عقول وقلوب هؤلاء الشباب، أستشعر منهم الحب والأمل والتفاؤل، وحين تقاعدت، شعرت بفراغ كبير، فقد كنت أعيش في وسط مليء بالضجيج جميل، وأعمل من أجل جيل جديد يستطيع أن يقف بثبات في وجه الزمن".
وعن شعورها حين بلغها خبر التقاعد، تقول ضاحكة "ما آلمني هو أنني كبرت. نحن النساء نظن أننا سنظل شابات، جميلات، نخرج صباحاً بأناقة، ولكن بخبر التقاعد شعرت فجأة أنني كبرت، رغم أنني كنت أعتقد أن الجامعة ستحتاج إلى خبراتي حتى بعد التقاعد، لكنها لم تفعل، لم أجد حتى ظلاً لي هناك".
تنتقد عزيزة عبد المحسن طريقة تعامل المؤسسة معها بعد سنوات طويلة من العطاء "لم يبحث عني أحد كانوا يتصلون بي فقط عندما تكون هناك احتفالية دون مقابل، ويقولون عزيزة لا تطلب المال لأنها بنت الجامعة، لكن إن كان هناك مقابل، يبحثون عن شخص آخر، وعندما قلت لهم إنني لن أعمل دون مقابل، لم يعاودوا الاتصال بي".
الإذاعة... حضنٌ لم يخن
عن علاقتها بالإذاعة، تقول بفخر "الإذاعة منحتني الأمان بعد التقاعد من الجامعة، منذ دخولي إليها عام 1975، لم أتركها إلا نادراً كنت عنصراً فاعلًا فيها، ووقتي كان ممتلئاً بالعائلة والعمل معاً لم أشعر بالتخلي من الإذاعة، على عكس الجامعة".
وتتابع بحب واضح للمهنة "لم أدّعِ المرض يوماً يكون سبباً لأتغيب عن عملي، سواء في الجامعة أو في الإذاعة. أحب عملي، وأقوم به بحب. حتى طهي الطعام أفعله بحب".
وعن فكرة التقاعد من الإذاعة قالت "الإذاعة عمل جميل مادام الصوت موجوداً والفكر حاضراً، فلا تقاعد حتى إن لم أتكلم، يمكنني أن أكتب، أن أعد برامج، أن أشارك من وراء الستار".
التقاعد ليس النهاية ولكنه يتطلب استعداداً
تؤمن عزيزة عبد المحسن أن التقاعد يمكن أن يكون بداية جميلة، لو تم الاستعداد له نفسياً ومادياً "أقحمت نفسي في الإذاعة حتى لا أعيش الانزواء، التعود على الاستيقاظ باكراً والالتزام بالعمل يمنح الحياة توازناً، انقطاع الحبل في المنتصف مؤلم... فما بالك إذا انقطع تماماً".
وأضافت "ما زال لدي ما أقدمه كثير من النساء لا يحظين بفرصة للعمل بعد التقاعد، وتضطرب حياتهن، لهذا أقترح أن تبدأ كل متقاعدة بكتابة يومياتها، أن تقرأ وتشارك مشاعرها على الورق، بدل أن تظل رهينة للوحدة أو الإهمال".
تؤمن عزيزة عبد المحسن أن النساء أكثر قدرة على التأقلم "المرأة تعطي بلا توقف، حتى بعد التقاعد، بينما الرجل ينتظر أن يُقدَّم له كل شيء، التقاعد مؤلم فقط إذا لم يكن هناك بديل".
الدولة والتقاعد... ماذا عن الدعم؟
وفي ختام حديثها انتقدت عزيزة عبد المحسن انعدام الدعم للمتقاعدين من قبل الدولة متسائلةً "لماذا لا تُمدّ للمرأة المتقاعدة يد العون؟ مادامت بصحة جيدة، لمَ لا تستمر في العمل؟ يمكن أن تُشارك في مراكز تعليم أو مصانع خفيفة، لكن هنا، في ليبيا، إذا تقاعدتِ، يُقال لك: بيتك يلزمك".