للصبر عدة وجوه... فاطمة سالم تلملم ما تبقى لها من ذكريات عن أبناءها في بيتها المهدم

فقدت أبنائها الثلاثة في حرب بنغازي عام 2014، وفقدت زوجها في حرب ليبيا ضد تشاد في الثمانينات، فاطمة سالم تتحدث عن حياتها بشيء من المرارة واللوعة بعد مقتل أبنائها وعودتها لمنزلها المدمر

ابتسام اغفير
بنغازي ـ .
بيديها النحيلتين المغطاتين بالتجاعيد، مسحت دموع تساقطت أثناء سردها لحكاية مقتل أبنائها الثلاثة في حرب بنغازي عام 2014، بدت فاطمة سالم امرأة قوية صابرة، بلهجتها "الغرباوية" التي لم تتغير على الرغم من تواجدها في مدينة بنغازي منذ زمن بعيد.
 
"مرارة النزوح أعادتني إلى منزلي"
"خرجت مثلي مثل غيري من سكان منطقة وسط البلاد بعد اشتداد المعارك فيها عام 2014، ذهبت نازحة إلى مدينة المرج، ثم عدت وسكنت في المدارس التي اعتمدت كمخيمات للنازحين بمدينة بنغازي"، بهذه الكلمات روت فاطمة سالم لوكالتنا بداية رحلة النزوح خلال الحرب.
وببالغ الحزن والأسى تتحدث عن معاناتها قائلة "ساءت حياتي بما فيه الكفاية، توفي أولادي الثلاثة في معركة الجيش ضد الإرهاب، وعدت للسكن في بيتي الذي دمرته الحرب، من أجل ذكرياتي مع أولادي التي هي في كل زاوية من زوايا البيت، ولأنني مللت من التنقل والسكن في بيوت الإيجار، لم أعد أستطع تحمل المزيد من التكاليف".
وأكدت أنها لا تتلقى أي نوع من الدعم أو المساعدات "رغم ما أنا فيه وما حدث معي، لم يسأل عني أحد من الحكومة، ولا حتى من الجيش".
 
"أبيع الخبز اليابس بين الحين والآخر"
عن كيفية تأمينها مستلزماتها اليومية هي وأحفادها الثلاث من أبنها البكر تقول فاطمة سالم "في أحيان كثيرة أقوم ببيع الخبز اليابس، فليس لدينا معيل يجني لنا المال حتى نعيش بكرامة".
وتابعت "أبني الكبير الذي كان في الاستخبارات لا يحصل أبناءه على مرتب والدهم، ومعاش الضمان 45 ديناراً لا تكفي لتربية الأطفال، وأنا ليس لدي ما أنفقه على معيشتهم ودراستهم أو حتى ثمن الدواء في حال مرض أحدهم".
وعن صيانة بيتها ومحاولة ترميمه تنفض يدها وتقول "البيت بحاجة لكثير من إجراءات الصيانة، والدولة لم تكلف نفسها حتى بزيارتنا أو دفع تكاليف الصيانة"، لافتة أن بعض الإصلاحات هي مساعدات تلقتها من بعض الأشخاص "ما أنا فيه الآن وتلك التشطيبات البسيطة هي من الناس الخيرة، مثلاً يعطوني مبلغ بسيط من المال أو يحضرون لي بعض مواء الطلاء".
 
"الإنسان تصعب عليه نفسه عند طلب الحاجة"
في وصفها لوضعها الصعب مع قليل من الإمكانيات تقول "إذا لم أعمل للحصول على مدخول من أجل شراء ما يحتاجه البيت، فلا أحد يأتي ويعطيني ما أحتاجه، فيما عدا مرات قليلة تأتينا مساعدات من الزكاة، أو من جمعية الأيتام، نحن لسا بحاجة سوى لمنزل نظيف وآمن حتى نشعر براحة نفسية".
وتؤكد بأنها ومنذ عودتها لمنزلها المهدم في عام 2019، لم تتلقى المساعدة من أحد "لا أستطيع شراء مكيف أو حتى مروحة كهربائية عادية"، وتضيف "عندما عدت إلى البيت جاء بعض الناس لمساعدتي في الأشياء الصعبة مثل الحفر أو ترحيل الركام، وهناك من أعطيه ثمن مساعدته إذا كان لدي، وهناك من يساعدني دون مقابل، بالإضافة لشباب المنطقة، وأصدقاء أبنائي دائماً ما يقولون إذا احتجت أي شيء نحن موجودون، ولكن الإنسان تصعب عليه نفسه عندما يقف ويطلب من شخص مساعدة، كأنه يتسول".
 
"أر بي جي فوق المنزل ونخاف أن تنفجر"
وفي حديثها عن أبناءها الثلاث وما قدمته لها الحكومة والجيش تقول "أنا ضحيت بأبنائي الثلاثة، ولكن لم يلتفت أحد لمساعدتي بعد وفاتهم، ولا يتذكرونني إلا في الأعياد خاصة عيد الأضحى، يتصلون بنا من أجل استلام مبلغ أضحية العيد، والمبلغ بسيط لا يكفي لشراء شيء". وتضيف "يتصلون بي أو يتصل بي أحد أصدقاء أبنائي لكي أذهب لاستلام الأضحية من منطقة يتم فيها توزيع الأضاحي، وفي أحيان كثيرة لا احصل على شيء، ففي شهر رمضان الماضي لم يأتيني شيء حتى كوب ما منهم".
وتتابع كلامها والدموع تملأ عينيها "أنا لدي ثلاثة أطفال هم أولاد أبني وأنا لهم الأم والأب والأخوة، حتى أن أمهم تزوجت وتركتهم لدي ولم تسأل عنهم، أنا كل شيء بالنسبة لهم، ولا أحد من أهلي في بنغازي أنا فقط، أصبحت متعبة نفسياً".
وحول ما قدمته لجنة حصر الأضرار لها ولأحفادها تقول "جاؤوا إلينا مرة واحدة ثم لم أرهم مرة أخرى، أعطوني وصل وبعدها اختفوا، حتى أنهم لم يعطوا رأيهم في البيت هل يصلح للسكن أو لا". 
وتضيف بأنه "توجد دانة أر بي جي فوق المنزل من بقايا الحرب، وأنا مهددة مع الأطفال بانفجارها في أي وقت، وحتى صف الهندسة العسكرية جاؤوا ورأوا الدانة وقالوا سوف نعود ونزيلها، ومر أكثر من شهر ولم نرى منهم أحداً".
 
"أخرجت عظام أبني بيدي هاتين"
في اللحظات الأولى حين بدأنا الحديث عن وفاة أبنائها كانت قوية متماسكة فقالت "أبني الكبير الذي أربي أبناءه عمل في الاستخبارات العسكرية توفى جراء عملية اغتيال، وأما الآخر فقد بقيت جثته لمدة سبعة أشهر بجانب جامع بالروين، وذهبت وأخرجت عظامه من هناك".
تقول بلوعة بالغة وهي تتحدث عن الطريقة التي قتيل فيها أبنائها الثلاث "والدهم توفى بضربة وادي الدوم في حرب ليبيا ضد تشاد، وأكبر أبنائي مواليد 1986، كنت سعيدة جداً به فهو بكري فقررت تزويجه، وتم اغتياله بعدها بشهرين، أما أخوه الأصغر قرر أن يذهب للحرب، على الرغم من رفضي لذلك، لأنني لازلت أعاني من فقد أخيه، لكنه قال لي أن أخوتي ذهبوا للدفاع عن الوطن، وأنا أريد فعل ذلك أيضاً فإما أعود أو استشهدت مثلهم"، وتتابع "وفعلاً في تمام الساعة السادسة صباحاً خرج ووصلني نبأ وفاته الساعة السادسة مساء".
 
"لم أستطع ترك البيت لأن ذكريات أبنائي تحيط به"
على الرغم من الغصة التي وقفت في حنجرتها خلال حديثها عن الذكريات إلا أنها استجمعت قواها وقالت "سكني في هذا البيت أكبر خطأ، ولكن لم أستطع تركه، لأن ذكريات أبنائي كلها فيه، أينما أذهب أراهم في جميع زوايا البيت"، مؤكدة أنها ليست نادمة على ما ربت أبنائها عليه، وأنها فخورة بهم فهم ذهبوا للدفاع عن وطنهم، "لم يتحملوا رؤية وطنهم يضيع فخرجوا للدفاع عنه، ولو كانت هناك نساء تحارب لخرجت معهن، لو كان لدي أبناء آخرين لا أقول لهم لا".
تقول فاطمة سالم في نهاية حديثها عن صبرها وهي تذرف الدموع "بعد أن استشهد أبنائي أصبح كل ما هب ودب يهددني ويسئ بحقي، لن أطلب أي شيء من أي أحد، ولن أقف على أبواب المعسكرات أطلب حق أبنائي، هم ماتوا شهداء دفاعاً عن بلادهم".
يذكر أن الحرب الليبية نشبت في تشرين الثاني/أكتوبر عام 2014، بين مقاتلي مجلس شورى ثوار بنغازي والجيش الليبي وبعض مؤيديه في المدينة، والتي خسر فيها الأول وحلفاءه في هجومهم على مطار بنينا، وكانت فرصة الجيش الليبي لإعادة تنظيم صفوفه.