كيف تحولت نساء الساحل السوري والسويداء إلى ضحايا الفوضى والانتهاكات؟

منذ توسع نفوذ جهاديي هيئة تحرير الشام في الساحل ومدينة السويداء السورية تدهور واقع النساء نحو أخطر مراحله، حيث تحول الجسد الأنثوي إلى ورقة ضغط في صراعٍ يتجاوز السياسة إلى استهداف مباشر للكرامة والحياة.

أسماء محمد

قامشلو ـ اختفت الحدود بين الوطن والدولة بعد أن تحولت الشوارع والمنازل السورية في السويداء وحمص والساحل إلى مساحات غير آمنة، في ظل سيطرة جماعة جهادية على السلطة، وانهيار كامل لمنظومة الحماية والعدالة.

منذ لحظة تمدد جهاديي هيئة تحرير الشام في مناطق الساحل السوري والسويداء، فتح الباب على مصراعيه على مرحلة جديدة من الخوف الجماعي والانهيار الأمني، مرحلة لم تعد فيها النساء مجرد متضررات من الصراع، بل أصبحن في واجهة الاستهداف المباشر.

ومع تفكك منظومة الحماية وغياب أي سلطة قانونية رادعة، تحولت أجساد النساء إلى ساحة مفتوحة للانتهاك، وتحولت كذلك البيوت التي يجب أن تكون ملاذاً إلى أماكن مهددة في أي لحظة بالخطف أو الاقتحام أو الابتزاز.

في هذا الواقع المنفلت، لم يعد الخطف استثناء ولم يعد التهديد حدثاً عابراً، بل أصبح ذلك جزءاً يومياً من تفاصيل الحياة، ترسم على وقعها تحركات النساء، وصوتهن وحتى أنفاسهن، فكثيرات انقطعن عن العمل والدراسة، وكثيرات حُبسن داخل جدران منازلهن قسراً، وكثيرات فقدن القدرة على الشعور بالأمان، في ظل تحول الشارع إلى مساحة خطر دائمة، لا تُدار بقانون ولا تضبط بمؤسسة.

ومع تصاعد الانتهاكات بين قتل وخطف وزواج قسري، وابتزاز وتجويع، ظهرت ملامح انهيار اجتماعي عميق، طال دور المرأة ومكانتها ودورها في الحياة العامة، وولد أزمات نفسية قاسية تتجسد في الخوف المزمن والقلق واضطرابات النوم والشعور بالعجز وفقدان السيطرة، وعلى وقع هذا الانكسار اليومي، تعيش النساء في تلك المناطق حالة تهديد وجودي لا يطال الجسد فقط، بل يطال الحق في الحياة والكرامة والأمان.

يرصد هذا التقرير الواقع الإنساني والاجتماعي الصادم عبر شهادة نازحة من مناطق الساحل من الطائفة العلوية، إلى جانب قراءة قانونية تقدمها المحامية هيوا فواز وليكا، لتوثيق حجم الجرائم والانتهاكات، وتسليط الضوء على التحولات العميقة التي طالت شكل الحياة ودور المرأة في مجتمع بات محكوماً بالخوف والصمت.

 

ليس مجرد تغيير في الخارطة

وقالت المحامية هيوا فواز وليكا من مدينة قامشلو بإقليم شمال وشرق سوريا أن التوسع العسكري والإداري الذي قامت به هيئة تحرير الشام في مناطق الساحل السوري والسويداء لم يكن مجرد تغيير في خارطة السيطرة، بل نقطة تحول خطيرة أعادت تشكيل الواقع الاجتماعي والأمني في تلك المناطق "انهارت البنى الأمنية القائمة، وظهرت مساحات من الفوضى والفراغ القانوني، ووجدت المكونات نفسها تحت ضغط مباشر، خاصةً المكون العلوي في الساحل والمكون الدرزي في السويداء، اللذين كان نصيبهما الأكبر من الاعتداءات والانتهاكات التي جرت بشكل علني ومقصود. ما شهده السوريون خلال الفترة الأخيرة يرقى بكل المقاييس الحقوقية، إلى مستوى الجرائم الجماعية ضد المدنيين، فالأوضاع خرجت عن السيطرة، وأصبحت المدن والقرى مسارح مفتوحة للسلاح والملاحقة والخطف والابتزاز، وقد كان للنساء النصيب الأكبر من هذا الألم، لأنهن يمثلن الحلقة الأضعف في ظل غياب سلطة قانونية تحميهن أو مؤسسات قادرة على فرض العدالة".

 

ساحة للصراع والضغط الطائفي

وتأتي خطورة المشهد وفق المحامية هيوا واليكا من كون النساء أصبحن مستهدفات لسببين في آن واحد أولاً لأنهن نساء في بيئة أمنية مفككة، حيث يصبح الجسد الأنثوي أداة ضغط تستخدمها القوى المسلحة في فرض النفوذ، وفي إثبات السيطرة على المجتمعات المحلية, ثانياً لأنهن ينتمين إلى هويات طائفية تعتبرها بعض الجهات خصماً سياسياً أو عدواً اجتماعياً، مبينةً أن هذا التداخل المرعب بين العنف الجنسي والعنف الطائفي جعل المرأة ضحية مضاعفة، وأدخلها في حالة من التهديد الوجودي، حيث باتت حياتها وكرامتها واستقرارها العاطفي والنفسي جميعاً تحت الخطر، وكثير من النساء أصبحن يعشن داخل دائرة خوف يومي، ينتظرن فيه أي حركة مشبوهة، أو صوت رصاص، أو مداهمة قد تحول حياتهن إلى كابوس طويل.

وأشارت إلى أن المرأة لم تعد ترى الشارع مساحة عامة بل فضاء محفوفاً بالخوف، ولم تعد ترى المنزل مكاناً آمناً، بل مكاناً مهدداً لأن العنف قد يدخل إليه في أي لحظة، فالعنف لم يعد عارضاً، بل جزءاً من شكل الحياة اليومية, وانتشار خطف النساء مقابل الفدية وتحول أجسادهن إلى وسيلة مساومة سياسية ومادية، موضحةً أن "الخطف كان من أكثر الانتهاكات انتشاراً في الساحل والسويداء، وقد تفاقم إلى درجة جعلت العديد من الأسر تعيش حالة رعب دائم، فالخاطفون يستهدفون النساء بشكل متعمد، لأن خطف امرأة يعتبر ضربة قاسية لأسرتها وللمجتمع المحيط بها، ولأنه يحقق مكاسب مالية أسرع عبر المطالبة بفدية".

وذكّرت بست وثلاثين امرأة جرى خطفهن في المناطق الممتدة بين اللاذقية وحمص وطرطوس، وفقاً لتوثيق منظمة العفو الدولية في الثالث والعشرين من تموز/يوليو الماضي وهذا الرقم كما تؤكد لا يمثل إلا الجزء المعلن من الحقيقة، "هناك الكثير من الحالات التي لم يتم الإبلاغ عنها بسبب الخوف الشديد من الانتقام أو من الوصمة الاجتماعية، ولا يقف الأمر عند الخطف، بل يتجاوزه إلى الزواج القسري، فقد أجبرت فتيات دون السن القانونية على الزواج من عناصر أو أشخاص مرتبطين بالفصائل المسلحة، إما بسبب خوف الأهل أو بسبب الضغط المباشر، وهذه الزيجات لا تحمل أي صفة قانونية ولا شرعية، وتعد اعتداء على الطفولة وعلى الحقوق الأساسية للفتيات".

 

"تشكيل لجان غير شرعية التفاف سياسي على القانون"  

وتحدثت المحامية هيوا واليكا باستفاضة عن اللجنة التي شكلتها السلطة التنفيذية التابعة لهيئة تحرير الشام في الساحل السوري بهدف متابعة قضايا الخطف والانتهاكات ضد النساء، وتصف هذه اللجنة بأنها لجنة مشوهة قانونياً، ولا تستند إلى أي قاعدة دستورية، وتعتدي بشكل مباشر على اختصاص القضاء "أي جهة تنفيذية لا تملك الحق وفق المبادئ القانونية، في تشكيل لجان تحقيق تتعلق بملفات جنائية أو حقوقية، لأن هذه الملفات تقع حصراً ضمن اختصاص القضاء المستقل، الذي يجب أن يعمل بمعزل عن الضغوط العسكرية والسياسية، مؤكدةً أن هذه اللجنة تفتقر للشفافية، فلا توجد فيها آليات للتوثيق، ولا منهج واضح للتحقيق، ولا نظام يضمن نزاهتها، وتعاملها مع الانتهاكات يتم عبر تقارير مقتضبة، لا تحمل أي وزن قانوني، ولا توفر الحماية للضحايا، ولا تمنع تكرار الجرائم".

 

انعدام الأمان يلتهم حياة النساء ويشل وجودهن الاجتماعي

وترسم هيوا واليكا صورة قاتمة لحياة النساء في الساحل والسويداء "الانفلات الأمني جعل الشوارع خالية من الطمأنينة، وأجبر النساء على الحد من خروجهن أو التوقف عن العمل أو التخلي عن الظهور الاجتماعي. كثيرات فقدن وظائفهن، وكثيرات تركن مدارسهن وجامعاتهن، خوفاً من التعرض للاعتداء أو الخطف"، مضيفةً أن النساء أصبحن أسيرات داخل منازلهن، يتجنبن الحركة ويتأقلمن مع واقع جديد يفتقر للعدالة وللحد الادنى من الحماية، وقد أدى ذلك إلى تراجع دور المرأة في المجتمع، وخلق هوة كبيرة بينها وبين العام الذي كانت تشارك فيه سابقاً. هذا الانسحاب القسري من الحياة الاجتماعية أدى إلى أضرار نفسية عميقة، مثل القلق المستمر، اضطرابات النوم والشعور بفقدان السيطرة، والانهيار الضغط العاطفي، وبهذا أصبحت المرأة تعاني ليس فقط من تهديد خارجي، بل من معركة داخلية تستنزف روحها وقدرتها على الصمود".

 

السويداء توثق والساحل يختنق بالصمت

وأوضحت أن البيئة الاجتماعية في السويداء سمحت نسبياً بمتابعة الأحداث وتوثيق الانتهاكات عبر الإعلام ومواقع التواصل "السكان هناك يملكون نوعاً من التنظيم الاجتماعي الذي يحمي الحراك المدني. في المقابل كان الوضع في الساحل أكثر قسوة. الخوف خنق الأصوات، ومنع الناس من الحديث أو التوثيق، لأن أي كلمة قد تعرض الشخص وعائلته للموت أو الاعتقال، ولهذا بقيت معاناة نساء الساحل خلف الأبواب المغلقة تدفن بصمت، وتنتشر فقط عبر روايات خافتة ومنقوصة". مشيرة إلى أن هذا الصمت القسري ساهم في تضاعف الأذى الواقع على النساء، لأنه جعل الجناة يشعرون أنهم فوق القانون، وأنهم محصنون ضد المحاسبة".

 

التوثيق واجب، والمساءلة ضرورة، وحماية النساء أولوية

ودعت المنظمات الدولية، وعلى رأسها منظمة العفو الدولية إلى التدخل العاجل والقيام بدورها الأساسي "المرحلة التي تعيشها سوريا مرحلة فارقة، تتصاعد فيها أشكال العنف كلها، ويزداد فيها الاستهداف المباشر للمدنيين"، مؤكدةً أن التوثيق يجب أن يشمل كل الانتهاكات، سواء كانت بحق فرد من طائفة معينة أو بحق النساء بشكل خاص، لأن حماية النساء جزء من حماية السلم الأهلي والاستقرار الاجتماعي، "إرسال هذه الملفات إلى مراكز القرار الدولي ليس عملاً شكلياً، بل هو الطريق الوحيد لمنع استمرار الجرائم، ولضمان ألا يفلت الجناة من العقاب، ولترسيخ الحق في العدالة والأمن".

وترى المحامية هيوا فواز وليكا في ختام حديثها أن النساء في الساحل والسويداء يقفن اليوم في مواجهة واحدة من أصعب التجارب في تاريخهن، معتبرةً أن "العنف والخطف والإذلال التي يتعرضن لها ما هي إلا محاولات لكسر روحن وطمس دورهن، ومع ذلك فقد أثبتت المرأة السورية أنها أقوى من كل محاولات التدمير، وأنها رغم الدموع والمخاوف والظروف القاسية، تبقى عماد الأسرة وسند المجتمع". موجهةً تحية حب واعتزاز لنساء سوريا، باعتبار أن المرأة مهما تعرضت للألم، ستبقى قادرة على النهوض، لأن وجودها ليس تفصيلاً اجتماعياً، بل هو الأساس الذي يقوم عليه المجتمع كله.

 

تجربة قاسية

ومن جانبها تروي إحدى النازحات من الطائفة العلوية في مدينة مصياف مأساة حياتها منذ بداية الأزمة، مشيرةً إلى أن أسباب معاناة نساء الساحل اليومية تتمثل في القتل العشوائي والنهب والخطف، وانعدام الأمن والاستقرار، فضلاً عن استهداف الأطفال والنساء بشكل مباشر.

وقالت سميرة الحسين (اسم مستعار) عن المجازر "كان يومنا مليء بأخبار المجازر والخطف والقتل، وكان المعتدون يقتحمون البيوت لتهديد السكان وسلب ممتلكاتهم. أحياناً يجبرون الأهالي على بيع ممتلكاتهم للحفاظ على حياة أبنائهم. فقدنا الأمان تماماً، وهذا هو أهم ما فقدناه. قبل الأزمة، كنا نعيش في مجتمع مترابط، أما اليوم فقد تغير الناس بالكامل، وأصبح العنف متفشياً بلا رحمة.

 

الجوع إلى جانب الرصاص

وأوضحت أن الخطر الأمني أصبح واقعاً يومياً، حيث تكررت الهجمات على المنازل، وإطلاق النار العشوائي، وترويع الأطفال والنساء "أي شخص يترك منزله قد لا يعود، والشباب معرضون للقتل عند محاولتهم الخروج، والفتيات يواجهن خطر الخطف والتهديد المستمر، ما يجعل المرأة تخاف على حياتها وحياة بناتها. حتى المرأة التي كانت تصمد أمام الصعاب اليومية لم تعد قادرة على تحمل نقص الموارد وانعدام أي مصدر معيشي آمن".

 

الفتيات في مرمى الخطر: تهديد دائم وخوف على الأرواح

كما أشارت سميرة الحسين إلى فقدان الحرية والكرامة "كانت المرأة قبل الأزمة تتحرك بحرية، تذهب إلى الأسواق ولزيارة أقاربها دون خوف، أما اليوم فكل خروج مصحوب بالتهديد أو الخطف أو المضايقة، وحتى مجرد التواجد في الأماكن العامة قد يؤدي إلى تهديد مباشر. نعيش في خوف مستمر".

وأضافت "الطعام شحيح، ولا يمكننا الخروج للعمل لتأمين لقمة العيش. الهجمات المستمرة، وإطلاق النار وترويع الأطفال والنساء، والجوع الدائم جعل الحياة صعبة جداً. أي خطوة خاطئة قد تعرض الإنسان وأطفاله للخطر". مؤكدة أن الأمان والاستقرار المنزلي أصبحا غاية عليا "أهم ما نطمح إليه هو أن نعيش في منازل مستقرة، وأن نؤمن لأطفالنا وعائلاتنا الحد الأدنى من حياة كريمة. طالما استطعنا الخروج من دائرة الخطر واستعادة الأمان ولو جزئياً، فإن ذلك يمثل أهم مكسب لنا".

وتتوجه النازحة سميرة الحسين بنداء عاجل إلى المنظمات الإنسانية العالمية تقول فيه "أحرصوا على دعم المرأة، وحافظوا على حقوقها، وقدموا لها الحماية في كل مكان، وفي جميع المجتمعات. نحن جميعاً شعب واحد، يد واحدة كلنا نساء وأمهات وبشر، ونأمل أن تمنح النساء الرعاية والاهتمام الذي يستحقونه".

 

من نداء الاستغاثة الى بارقة الأمان

وفي جانب إيجابي تسلط النازحة الضوء على دور الإدارة الذاتية في توفير الأمن والاستقرار بالقول "عندما علمنا بوجود أمان وحماية للإنسان، وفرص للعمل قررنا القدوم إلى مناطق إقليم شمال وشرق سوريا وقاموا باستقبالنا استقبالا كريماً. الإدارة الذاتية قدمت فرص عمل للجميع، وأوجدت أماناً واستقراراً حقيقيين، مع احترام جميع البشر دون تمييز. هذا منحنا شعوراً بالكرامة والحياة الآمنة".

تجسد هذه الشهادة حجم التحديات الإنسانية والاجتماعية التي تواجه النساء في الساحل، وتسلط الضوء على الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وفقدان الأمان، وانهيار شبكة الأمان الاجتماعي والمجتمعي، وفي المقابل تظهر أهمية وجود إدارة رشيدة.