خيمة فوق ركام منزلها... فلسطينية تعيد الحياة وسط الدمار

وسط الدمار والحصار، يولد الصمود من تحت الركام حيث تتحول المحن إلى معركة بقاء لا تعرف الاستسلام، تتجسد في قصة امرأة فلسطينية تتسلح بالإرادة لتصنع المستحيل رغم كل المآسي.

نغم كراجة

غزة ـ في قلب حي الشجاعية المدمر، وسط الخراب واللجوء والفقدان، تقف أميرة عويس كنموذج حي للصمود والتحدي لكافة المحن التي يواجهها الشعب الفلسطيني؛ فبالرغم من ويلات الحرب التي عاشتها، وخسارة أبنائها ومنزلها، رفضت الرحيل وأصرت على البقاء فوق ركام منزلها، وبنت خيمة لتلجأ إليه، فلم تكسر الحرب ولا قسوة الطقس إرادتها، بل زادتها إصراراً على التمسك بأرضها، معتبرةً أن البقاء في الوطن هو أبلغ أشكال المقاومة.

أميرة عويس رفضت أن تنكسر أمام آلة الحرب الإسرائيلية، وعلى ركام منزلها المدمر، الذي كان يوماً مكوناً من خمسة طوابق تعج بالحياة، أقامت خيمتها البسيطة، وأحاطتها بأعمدة حديدية مهترئة، وزرعت حولها بقايا الأمل في شكل نباتات خضراء.

وأوضحت الانتهاكات التي تعرضوا لها خلال هجمات القوات الإسرائيلية على غزة  "عندما عدت إلى هنا، بعد الاجتياح الأخير، لم أجد سوى الخراب.. كان الطابق الخامس قد سقط فوق الطوابق الأربعة، ومع ذلك صعدت إليه، وعشت داخله كما هو، كنت أعرف أنه غير صالح للسكن، لكنني كنت أقول: هذه أرضي، لن أتركها، وحين ضربت القذيفة الإسرائيلية ما تبقى من البيت، خرجتُ منه بملابسي فقط، لم أحمل شيئاً، لم أفكر بشيء، سوى أنني سأعود مهما حدث".

 

آلام لا تُنسى

تحدثت أميرة عويس عن نزوحها المتكرر خلال الحرب، وكأنها كانت عالقة في دائرة لا نهائية من التشرد واللجوء، في كل مرة كانت تترك بيتها، كانت تفعل ذلك مع عائلتها كاملة، إلا في الاجتياح الأخير، حينما تفرق أبناؤها الثلاثة مع زوجاتهم، أحدهم اتجه جنوباً، والآخر بات يتنقل بين مناطق النزوح، أما الثالث، فبقي معها حتى الرمق الأخير، لكنه لم يعد من مشواره الأخير إلى البحر، كان يريد شراء السمك، لكن الرصاص سبقه. 

وعن ذلك قالت "لم أكن أتخيل أن مشوار سريع إلى الشاطئ سينتهي بجثمان ابني محمولاً على الأكتاف، غارقاً في دمه، كنت أنتظر عودته بطعام الغداء، لكنني وجدت نفسي أبحث عن كفنه، كيف يمكن أن يستوعب عقل أمّ أن ابنها الذي ودعته قبل ساعات، سيعود إليها جثة؟" قالت هذه الكلمات وهي تنظر بعيداً، كأنها تحاول أن ترى ابنها  من جديد، كأنه لا يزال هناك، يبتسم لها وهو يدخل من الباب. 

أما ابنها الأوسط، فقد أصيب في اجتياح مجمع الشفاء الطبي، حيث أصيب في رقبته، التي جعلته مشلولاً لفترة طويلة، واحتاج إلى العلاج الطبيعي حتى استعاد بعض قدرته على الحركة لكنه لم يجد أمامه خياراً سوى النزوح مع زوجته إلى الجنوب، وبعد أيام، اختفى خلال سير النازحين، لم يعد لديها أي خبر عنه، ولم تصلها أي رسالة منه، لم يتصل أحد ليقول أين هو، وكأن الأرض قد ابتلعته. 

وتقول عن ذلك "أحياناً أستيقظ في الليل وأحاول أن أقنع نفسي بأنه بخير، أنه في مكان ما، ربما معتقل، ربما جريح، لكنه حي في أعماقي، أخاف أن يكون قد رحل، كما رحل شقيقه في الحرب، كل شيء يصبح ممكناً، حتى الأشياء التي يرفضها قلبنا".

 

الخيمة... سقف من قماش وإرادة من فولاذ

حين سقط منزلها للمرة الثانية، لم تبكِ كثيراً، لم يكن هناك وقت للبكاء، لم تفكر في البحث عن مأوى آخر، ولم تحاول مغادرة الحي، عادت إلى الركام، جمعت ما استطاعت من بقايا الألمنيوم والخشب، واشترت بعض الأعمدة الحديدية من سوق الخردة، ثم بنت خيمتها بيدها فوق الخراب. 

وحول كيفية بناءها للخيمة التي ما زالت تلجأ فيه أوضحت "عندما كنت أنصب الخيمة، كنت أشعر كأنني أضع حجر الأساس لمشروع جديد، لم أكن أراه مجرد قماش فوق رأسي، بل كان إعلاناً (أنا هنا، لم أرحل، ولن أرحل)، لم أطلب من أحد أن يساعدني، لأنني كنت أعرف أن الجميع مثلي يحاولون إعادة بناء حياتهم بأي وسيلة".

في الليل، عندما تشتد الرياح، تمسك أطراف الخيمة بيديها حتى لا تقتلعها العاصفة، وعندما تهطل الأمطار، تنتقل من زاوية إلى أخرى بحثاً عن بقعة جافة، لا يوجد شيء يحميها من البرد سوى بعض الأغطية المهترئة التي وزعتها المنظمات الإغاثية، لكنها تعاند الطقس، تماماً كما تعاند الاحتلال. 

وفي متابعتها لسرد قصتها بين الآلام والآمال قالت "في أيام العاصفة، أشعر وكأنني في معركة أخرى، أمسك أطراف الخيمة وكأنني أدافع عن آخر ما تبقى لي في هذا العالم، في إحدى الليالي، تسرب الماء إلى الداخل، فجلستُ في الزاوية، ووضعت الأغطية فوق رأسي، وانتظرت الصباح، لم أكن غاضبة، ولم أشعر بالضعف، كنت أقول لنفسي: هذا امتحان آخر، سأجتازه كما اجتزت كل شيء قبله".

 

امرأة تصنع المستحيل من أجل أرضها

لم تكتفِ أميرة عويس ببناء الخيمة، بل زرعت حولها بعض النباتات الخضراء، وكأنها تعيد للحياة نبضها في وسط الخراب، تسقيها يومياً، تتحدث إليها، تراقبها تكبر ببطء، تماماً كما تحاول هي أن تعيد بناء أيامها وسط هذا الركام. 

وأكدت أن "النساء الفلسطينيات لم يكنّ مجرد مشاهدات للحرب، بل صانعات للحياة وسط الدمار، نحن من يعمر الأرض شبراً شبراً، ونحن اللواتي نحافظ على القضية جيلاً بعد جيل، لهذا بقيت هنا، لأقول للعالم إن هذه الأرض ليس للبيع، وإننا سنزرع الأمل، حتى لو كان ذلك فوق الخراب".

وعما تفكر به في مغادرة الشجاعية أم لا، فهزت برأسها بحزم، كأن السؤال بحد ذاته مرفوض "لا، لن أترك هذا المكان حتى لو بقيت وحدي، حتى لو اضطررت إلى العيش تحت السماء مباشرة، سأبقى، هذه ليست مجرد أرض، هذا وطن، وأنا لن أكون أقل وفاءً له من الشهداء الذين ارتوت به دماؤهم".

مع اقتراب الثامن من آذار اليوم المرأة العالمي، تثبت النساء الفلسطينيات أنهن الأكثر صلابة ونضالاً في وجه المحن، في الوقت الذي يُحتفى فيه عالمياً بإنجازات المرأة، يكتبن في غزة تاريخاً من الصمود، حيث لا تُقاس القوة بالكلمات، بل بالقدرة على البقاء رغم الدمار، أمثالهن لا ينتظرن تكريماً، فكل يوم في حياتهن هو شهادة على الشجاعة، وكل لحظة في نضالهن تؤكد أن المرأة الفلسطينية ليست فقط المرأة المحصورة ضمن الحدود المرسومة للنساء في البيت، بل من تحمي الأرض والكرامة رغم كل التحديات.

أميرة عويس ليست مجرد امرأة نازحة، ولا ناجية من حرب قاسية، هي شاهدة حية على أن الصمود ليس مجرد كلمة، إنما فعل وقرار، حياة تُعاش رغم كل شيء، خيمتها التي قد تبدو للبعض مجرد قماش هش، هي في الحقيقة أقوى من جدران البيوت التي انهارت تحت القصف لأنها لم تُبنَ بالإسمنت، بل بالإرادة.