جعلت العمر مُجرد رقم وتحولت من أُمية إلى معلمة وكاتبة
جعلت لمعة علي العمرَ مجردَ رقمٍ في قاموس حياتها، ونالت الشّهادتين الإعدادية والثّانوية بعد أن تجاوزت الـ 35 عاماً وتحول يراعها إلى لسانٍ تنطق به بقصص ومشاعر مستوحاة من الواقع، انها امرأة صَيرت من سراب الحلم واقعاً ملموساً
رهف يوسف
قامشلو ـ .
تُثبت المرأة في شمال وشرق سوريا أنها قادرة إحياء الإرادة تحت أي ظرفٍ تَعيشه، فرغم حرمانها من حقوقها نتيجة الظّروف المُتعددة تُصر على انتزاعها رغماً عن القدر.
لمعة محمد علي (47) عاماً، من مواليد (1947) من قرية شيرو الواقعة على مشارف ديريك، لعائلة كادحة تتألف من أحد عشر أخاً وأختاً، كانت في السَّن المناسب للبدء بالتعليم عند انتقال عائلتها إلى مدينة قامشلو، إلا أنها لم تتمكن من ذلك، وقالت لنا "عائلتي تأثرت كثيراً بشيوخ الدين فأسمائنا كان الشَّيوخ هم من يختارونها، وبناء على هذا الاعتبار ومن مبدأ تحريم تعليم الفتيات مع الصَّبيان، مُنعتُ من الدّراسة".
من محو الأمية إلى الصّف التّاسع
كان والد لمعة علي دائم السَّفر وأخوتها صغار في السَّن لذا لم يتمكنوا من التّدخل، واستمر الوضع على هذا الحال حتى سفرها إلى دمشق عندما بلغت الـ 12 عاماً "تعرفت على معلم لغة عربية كردي من عامودا يلقبونه بأبو رستم، كان يعمل هناك حتى افتتاح المدارس، أهداني دفتراً وقلماً وممحاة، وطلب مني الذَّهاب إليه في ساعة معينة ليعلمني الحروف".
وبعد تعلمها للحروف، بدأت بربطها لتشكل كلمات ثم جمل "أول كلمة رَبطت حروفها كانت اسم (وداد)، إلا أن استاذي غادر بعد انتهاء الاجازة، موصياً إيايَّ بالمتابعة. وكلما كنت أجد كلمات أقرأها وأحاول كتابتها، وهكذا أتقنت القراءة".
ولم تنطفئ رغبتها وعطشها للتعلم، ذلك أنَّ شعورها بالنَّقص من هذه النَّاحية كان ما يزال موجوداً "شعرت أنني لست كالبقية، لأنني لم أدرس".
وعندما شارفت على بلوغ الـ 30 من العمر، شجعتها شقيقتها على التَّعلم طالبة منها الذَّهاب إلى المدرسة، إلا أنها ترددت "بعد عدة سنوات صديقتي أيضاً دعتني لخوض التَّجربة، وبعد السَّؤال عَلمتُ أنه عليَّ البدء من الصَّف الأول، وكنت أفكر وقتئذٍ بالتَّعلم من أجل الحصول على الشهادة الإعدادية والاستقلال بعمل خارج أجواء المنزل".
ليتم اختبار قابليتها ذهبت إلى مسؤول عن هذا الأمر "طلب إليَّ كتابة جملة معينة، وقراءة بعض المقاطع من كتاب، فأخبرني أن أحضر نفسي لتقديم اختبارات الصَّفين الخامس والسَّادس الابتدائي، ونجحت بمحو الأمية، وفي ذات العام قدمت لامتحان الشهادة الإعدادية، إلا أنني رسبت في السّنة الأولى، ولكنني لم استسلم فتقدمت للامتحان مرة أخرى".
النّجاح كان حافزها للمتابعة
في المرة الثَّانيَّة نجحت لمعة علي، وكان هذا النَّجاح حافزاً لها للمتابعة وقالت "عندما نبكي بحزن تكون دموعنا محرقة ومؤلمة، دموع الانتصار التي ذرفتها لها نكهة أخرى، لأنها المرة الأولى التي شعرت فيها أنني قمت بإنجاز لمستقبلي".
وأكملت "مباشرةً ذهبت لأحضر للتقدم من أجل الشهادة الثانوية، وشجعنيَّ في هذه الخطوة أخوتي، فسجلت دورات ومدرسيَّ ساعدوني بشكل كبير"، إلا انها عانت من توتر نفسي جراء سماعها لفتيات قدمنَ أكثر من مرة ولم ينلنَّ الشَّهادة، "قلت لنفسي إن كانت هؤلاء الفتيات لم يستطعنَّ أخذها فهل سأستطيع أنا؟".
إلا أنها تعتبر أنه في تلك الفترة كل ما كان حولها دفعها نحو المُضي في هذه الخطوة واصفة لنا موقفاً مرَّ معها "في إحدى الليالي وأنا أدرس غططت في النَّوم، فسمعت طرقاً خفيفاً على نافذة منزلي، وظننتها والدتي جاءت لتطمئن علي، وعندما أزحت السَّتارة رأيت عصفورة، واعتبرتها إشارة جيدة".
وأضافت "في يوم النَّتائج زفت لي شقيقتي خبر النَّجاح، ولم أصدق نفسي، فعندما كنت أقرأ وأكتب أي شيء كان الأمرُ صعباً جداً".
لم يتوقف طموح لمعة علي بل ازداد بعد النَّجاح وقررت أن تًدخل الجَّامعة، وسمحت لها علاماتها بدخول رياض الأطفال وكان معهداً وقتها إلا أن عمرها حال دون ذلك، فسجلت في كلية التجارة والاقتصاد على التَّعليم المفتوح، رغم صعوبة فهمها لمادة الرَّياضيات "انتهى الفصل الأول، ومع دخول الثَّاني انطلقت الثّورة في شمال وشرق سوريا، ودخل داعش مدينة الحسكة".
وتابعت "شعرت بأن حياتي على المحك، لم أرغب أن أتحول لسبية، لذا أوقفت دراستي، ولم أستسلم بل بدأت بدورات اللغة الكردية، وبعدها سجلت في جامعة روج آفا قسم الأدب الكردي، ودرستها لمدة عامين، وكنت مع أول مجموعة تدخل إلى الجَّامعة وتتخرج منها عام 2017".
ودرستْ لمدة عامين من دون استراحة، "لم يكن هناك مراجع أو مصادر فكل المعلومات يجب الحصول عليها من الانترنت أو من أحد المُثقفين، وتواصل السّنوات الدّراسيّة كانت ترهقني".
وعقب التَّخرج عملت لمعة علي كمدرسة في عدد من المدارس لفترة قصيرة، وبعدها درستُ في أكاديمية الشَّهيد عكيد الأدب الكردي، "كنت بحاجة لمناقشة العديد من الأمور مع أشخاص يمتلكون الوعي ولا سيما أن الأدب الكردي لا ينفصل عن التَّاريخ، وهذا ما أتاحه لي عملي عبر التدريس وإعداد المعلمين والمعلمات، واعتبر ذلك تجربة مميزة، لأنني أرى النَّتائج النَّهائية لعملي".
وعن صفات المعلمة النَاجحة توضح لمعة علي أن عليها امتلاك المعلومات والحافز والجرأة "يجب عليها المطالعة وعدم حصر نفسها بكتب التّدريس، وأن تتواضع لتدخل إلى قلوب الآخرين وتزيل الحدود، مما يخلق جو من الرَّاحة اثناء اعطاء وتلقي المعلومات".
حلمٌ أدخلها عالم الكتابة الواقعية فكانت المُتأثرة والمُؤثرة
وحول بداية تجربتها في الكتابية، تقول لمعة علي أن الأمر بدأ بحلم دونته على دفترها على شكل قصة وهي في الجّامعة "زميلي رأى الكتابة وأعجب بها، ونصحني بتنقيحها وتحضيرها للمشاركة بها في مهرجان أوصمان صبري الثَّاني، وأصر ففعلت ذلك، وبعد فترة اتصل بي واخبرني أن القصة قُبلت ويجب أن أقرأها إلا أنني اعتذرت، إذ كنت مريضة فقرأها هو عوضاً عني، وفي اليوم الأخير ذهبت وكانت المرة الأولى التي أذهب فيها للمهرجانات".
وتفاجأت في المهرجان بفوزها بالمرتبة الثَّالثة بقصة (لهنك)، "شعرت أن كل شيء كان ضدي منذ بداية حياتي، إلا أن ذلك تغير بعد أن تعلمت، وكانت هذه القصة نقطة دخولي عالم الكتابة".
وأكثر ما يحفزها على الكتابة القصص الواقعيَّة، "هناك أمور تحتاج للخيال ولكن ليس بالضرورة أن نتمسك به، لأن للواقع التَّأثير الأكبر في المجتمع".
وكتبت عما يؤثر بها، معطية مثالاً على ذلك قصتها الأخيرة لمهرجان اتحاد الكتاب الكرد في سوريا "نحن نعلم أن هناك سجون وفيها تعذيب، نفهمه على أنه جسدي، لذا حاولت أن أتناول الجَّانب النّفسي لهؤلاء الأشخاص، وبطلة قصتي كانت امرأة".
وعنوان إحدى قصصها (شفق) والحديث للمعة علي "أصور قصة فتاة تضل الطّريق وتبتعد عن المجموعة التي كانت ترافقها في الجبال، فتختبئ لتحمي نفسها في شجرة صغيرة، وجيش العدو يجلس ليستريح جانب هذه الشَّجرة، حاولت ابراز الحالة النَّفسية التي مرت بها البطلة في تلك الأثناء".
ومنذ بداية دخولها مجال كتابة القصص القصيرة ألفت سبع قصص منها (لهنك، شفق، التنهيدة أو هناسا) وتروي التّنهيدة قصة فتاة ضمن وحدات حماية المرأة تشارك في الهجوم على أحد مقرات مرتزقة داعش.
وتكمل "عند التّحضير لتشييع الشَّهداء، يرفض أحد رفاقها تصديق استشهادها، فيذهب إلى مكان وضع جثمانها في البراد ويفتحه ويخبرها أن تستيقظ وتنفذ وعدها بأن تبقى حية حتى تتحرر مدينتهما، إلا أن رفاقه يحاولون ابعاده، ورغم هذا يعاود فتح البراد والتحدث معها، ويبقى على هذه الحال حتى تشهق الشّابة ويتبين فيما بعد أنها ما زالت تتنفس وتقول بصوت خافت (لا أزال حية)".
وتقول إنها عبر تركيزها على الجَّانب النَّفسي تحاول تفجير أحاسيسها "هنالك الكثير من الأحداث التي نعيشها في الحرب لكننا رغم ذلك لا نستطيع أن نراها أو نلاحظها لذا يجب أن نكتبها، فعبر الجانب النَّفسي أستطيع مخاطبتك كإنسانة ولمس إحساسك الدَّاخلي".
وتؤكد لمعة علي أنها ستستمر بالكتابة "أصبح طريقنا أصعب وواجبنا أثقل، لأعرف كيف أوصل ما يحدث داخل بلادنا لمن يعيشون هنا وفي الخارج، يجب أن أطور أسلوبي في الكتابة لأحقق أهدافي".