في الذكرى الـ 11 للمجزرة... عوائل الضحايا يحملون ذكرياتهم كراية لا تسقط
شهدت مقاطعة دير الزور في إقليم شمال وشرق سوريا إبان سيطرة الإرهاب داعش مجزرة تعد من أكثر الفظائع المروعة التي عرفتها سوريا خلال سنوات الحرب.

زينب خليف
دير الزور ـ في عام 2014 ارتكب الإرهاب داعش مجزرة بحق عشيرة الشعيطات بمقاطعة دير الزور بإقليم شمال وشرق سوريا، واليوم تقف المرأة التي فقدت أفراد من أسرتها شاهدة على مأساة لا تُنسى.
المرأة التي تحمل في قلبها ثقل الفقد، هي رمز للتضحية والصمود، فرغم كل ما شهدته من مآسي هي الأم التي فقدت ابنها، والزوجة التي فقدت زوجها، والأخت التي فقدت أخاها، لكنها رغم ذلك تبقى قوية، تنبض بالحياة وتزرع الأمل في قلوب من تبقى.
في كل زاوية من ريف دير الزور الشرقي، تُروى حكايات النساء اللواتي كن أول ضحايا الإرهاب، لكنهن أيضاً رموزاً للصمود والتحدي. إن قصصهن يجب أن تُروى، لتبقى ذكرى لكل من يسعى لإعادة بناء ما دمرته الحروب. لكن ما تزال جراح المجزرة مفتوحة، رغم مرور أحد عشر عاماً على المأساة، وما زالت أصوات الأمهات تنادي الأبناء الذين لم يعودوا، وأرواح الأطفال ترفرف في ذاكرة الأحياء، شاهدة على حقبة سوداء من الرعب والوحشية.
من خدعة الدين إلى القتل الجماعي
غادة عادل إحدى نساء الشعيطات قالت عن تلك الأيام التي امتدت من 8 آب/أغسطس حتى 15 من الشهر نفسه "دخل مرتزقة داعش منطقتنا بادئ الأمر تحت شعار الدين فأوهموا الناس أنهم يحملون مشروعاً إسلامياً يعيد القيم والمبادئ، فوجدوا قبولاً مبدئياً من بعض الأهالي، ممن ظنوا أنهم أمام تغيير ديني إيجابي. لكن الواقع انقلب سريعاً إلى وجه أكثر ظلمة".
وأضافت "بمجرد أن تمكّن داعش من السيطرة، بدأت مرحلة جديدة مليئة بالدم والرعب. نفّذ المرتزقة اغتيالات منظمة، وفرضوا أحكامهم باسم الشريعة، واستخدم داعش النصوص القرآنية زوراً لتبرير قطع الرؤوس، وإعدام الأطفال، وتنفيذ أحكام الردة الجماعية".
وبينت أن "منطقة الشعيطات إحدى أكثر المناطق تضرراً، فكانت تشهد جرائم شبه يومية، ومن أبشع ما حدث، جريمة قطع رؤوس أربعة أطفال أمام والدهم، الذي ظل جالساً أياماً غير قادر على دفنهم من شدة الصدمة، وقال المرتزقة أن هؤلاء الأطفال مرتدون، بينما الإسلام بريء من هذا الإجرام".
الآثار النفسية والمآسي الإنسانية
المجزرة لم تكن فقط بالرصاص والسكاكين، بل كانت في عمقها تدميراً للنفس والروح، لقد انهارت الأمهات نفسياً، وانهارت العائلات، وأصيبت عدد من النساء بالجلطات نتيجة الصدمة، فأطفال لم تتجاوز أعمارهم الرابعة عشرة، اتهموا بالردة وأصبحوا جثث هامدة بلا رؤوس، بمشاهد لا يمكن أن يمحوها الزمن من الذاكرة الجماعية.
وتقول غادة عادل أنه "لم يكن ذلك كل شيء، بل رافقت المجازر عمليات سرقة ونهب وتدمير، نفذها المرتزقة باسم الدين، مستبيحين كل شيء في سبيل سيطرتهم المطلقة".
إحياء الذكرى... فعل مقاومة واستعادة للكرامة
كل عام، يجتمع أهالي الضحايا في الثامن من آب/أغسطس، لا ليبكوا فحسب، بل ليؤكدوا أن الضحايا لم يُنسوا، وأن دماءهم لم تذهب هدراً، ويقاموا هذا اليوم لكي تبقى المجزرة حية في ذاكرة الأجيال، عبر فعاليات، كلمات، صور، وزيارات لقبور الضحايا.
وتقول سحر العبد، إحدى الشاهدات على المجزرة "في آب 2014، عشنا مأساة لا يعرفها إلا من عايشها. خسرنا أكثر من 1200 شهيد، معظمهم من أبنائنا وأزواجنا وإخوتنا. تهجرنا، وتحولت الحياة إلى جحيم. أمرونا بإخلاء بيوتنا، صرخوا في المساجد اخلوا البيوت، فغادرنا إلى هجين، ثم أبو حردوب، وبعدها عدنا إلى النباع والنصير في الشعيطات".
وأوضحت "يوم نزحنا من بيوتنا، كتب مرتزقة داعش على الأبواب شعاراتهم. الرجال انقسموا بين مقاتل وقتيل، وكثير منهم أُعدموا في الطرقات". مؤكدةً أن "هذا ليس ديناً. الإسلام بريء من كل هذا. الشعيطات كانت المنطقة الوحيدة التي تعرضت لهذا العقاب الوحشي، لكننا صمدنا، ومع دعم قوات سوريا الديمقراطية والأهالي، تحررنا من قبضة داعش".
وأكدت أنه بعد تحرير قوات سوريا الديمقراطية ووحدات حماية المرأة للمنطقة والقضاء على داعش ربيع العام 2019 "بدأت الحياة تعود تدريجياً، وشاركت قوات حماية المرأة في تنظيم القرية، وأعادوا للمرأة دورها، وتأسست منظمات مجتمعية، وعادت المياه والكهرباء، عادت الحياة والأمل ما زال في قلوبنا، رغم كل الخسائر".
"لا يمكن تخطي الفقدان"
فيما تروي يازِية الحسين ودمعتها لا تفارق عينيها، حكاية فقدان أولادها الأربعة. كلماتها تفيض ألماً، لكنها تمثل المرأة القوية "كلهم راحوا… أحدهم قال لي: أركبي السيارة، نحن نلحقكم. رحلوا ولم يعودوا. خرجنا من بيوتنا يوم الخميس، اليوم الذي لن يُنسى أبداً. شعور الفقد لا يُحتمل، كأن القلب يُقتل آلاف المرات، وقلوبنا تحترق بالنار".
أما نصرة العبد الغني فتحكي عن فقدانها لزوجها "قال إنه سيخرج ليرى ما يحدث، خرج ولم يعد. لا نعلم شيئاً حتى اليوم. بعد يومين أو ثلاثة، خرجنا نحن أيضاً. كنت حاملاً، لا أدري كيف أنجبت وسط هذا الألم".
فاطمة العبد القاسم، فتاة لم ترَ والدها أبداً، فقدته وهي رضيعة تقول "عمري الآن 11 عاماً، كان عمري 6 شهور فقط عندما غادر أبي ولم يعد. لا أعرفه إلا من الصور. لا أتذكر وجهه، لم أسمع صوته، ولم أشعر بحضنه. أبكي كلما رأيت صورته. أعيش بين من يذكرونه لي، لكني أظل طفلة تنتظر لقاءً لم يحدث".
ذاكرة لا تموت
مجزرة الشعيطات لم تكن مجرد فصل من فصول الحرب، بل كانت لحظة فاصلة بين الألم والصمود، بين الموت والنجاة. رغم كل الخسائر، ما زالت المنطقة صامدة، والناس فيها يحملون الحكاية كراية لا تسقط. من تحت الركام خرجت أصوات النساء، تحكي، تبكي، وتقود النور نحو مستقبل لا مكان فيه لداعش ولا لأشباهه.