فنانة تشكيلية تودع غالبية لوحاتها بغارة إسرائيلية
في غارة إسرائيلية على أحد مراكز الإيواء شمالي قطاع غزة, فقدت ياسمين المدهون غالبية لوحاتها، بعد أن أقامت معرض للأطفال والنساء هناك، مقررة تمديده حتى اليوم التالي لتسبقها الغارات وتحرق كل شيء نقلته للوحات بهدف توثيق جرائم الحرب.
رفيف اسليم
غزة ـ يعتبر الفن وفقاً لياسمين المدهون، طريقة علاجية مبتكرة توظيفها يعود بالعديد من المنافع، فهي خلال الحرب في غزة ذهبت إلى مراكز الإيواء وقامت بمقابلة النساء والأطفال طالبة منهم الرسم، فوجدت أن الغالبية العظمى من النساء والفتيات ترسمن بيت بحديقة منفصلة وهذا يدل على افتقادهن للأمان ولمنازلهن التي دمرتها القوات الإسرائيلية لتجبرهن على العيش بمراكز الإيواء.
لفتت الفنانة التشكيلية ياسمين المدهون، إلى أن المرأة هي الملهمة الأولى لها فقد احتلت مساحات واسعة من أعمالها كونها اضطرت للخوض في واقع معيشي فرض عليها نمط حياة قاسية لا تستطيع نساء العصر الحديث تحمله، كما أجربت على تربية أبنائها بأساليب مختلفة تماماً وسط بيئة تفتقر لأدنى مبادئ الاحترام والإنسانية والانصاف.
ولا تنكر ياسمين المدهون، أنها اليوم امتنعت عن رسم المزيد من اللوحات واكتفت بنقل الكثير من التفاصيل عبر اسكتشات للتحضير إلى معرض يضم أبرز القضايا التي فرضت نفسها على النساء والأطفال بفعل الحرب المستمرة منذ عام مضى وحتى اليوم، مشيرة إلى أنها كفنانة تتأثر بالظروف المحيطة ولا تستطيع غلق عينيها كما أنها دوماً ما يتملكها موجة من الاكتئاب واليأس بفعل المجازر التي تراها فتمنعها عن الرسم.
قد تكون غلاء المواد الخام هي مشكلة أساسية عانت منها ياسمين المدهون، ودفعتها للتوقف ولو لفترة زمنية معينة في سبيل إيجاد حل مناسب وفقاً لما أشارت له، فاللوحات تضاعف ثمنها لخمس مرات وخامات الألوان الجيدة من الباستيل والطباشير لم تعد متوافرة بالأسواق، وجل ما يباع هو عبارة عن ألوان مائية رديئة.
وتدرك ياسمين المدهون، أهمية عملها في الوقت الحالي فتفيد، أنه لا يمكن التقليل من أهمية الفن لتوثيق ما يعاش كونه الوسيلة الوحيدة لنقل تلك القضايا دون الحاجة للغة أو مترجم، ضاربة مثل "عندما نقول إبادة جماعية قد نحتاج إلى ترجمة الكلمة لآلاف اللغات كي تصل لدول العالم، لكن عندما نوثق ما يفعله الصاروخ الذي يزن آلاف الأطنان من المتفجرات حين يسقط في مركز إيواء وتتناثر الجثث والأشلاء، يتم الاستغناء عن الترجمة".
وحاولت أن ترسم تلك الامرأة التي تشعل الحطب، وتلك الفتاة الصغيرة التي تقف في دور تكية الطعام، وأخرى تصرخ من الهلع الذي سببه انفجار قريب، وتلك التي تحاول تخيط حذاء طفلها للمرة الألف، كما نقلت حالة التلوث في مراكز الإيواء والأمراض المنتشرة في ظل نقص الدواء والنزوح المتواصل تحت نيران الطائرات المسيرة، والمجاعة التي لم تتوقف عن شمال قطاع غزة ولو ليوم واحد منذ بدء الحرب.
وأردفت ياسمين المدهون، أنها تتأثر أيضاً بما تتابعه عبر مواقع التواصل الاجتماعي وما يسمى بالوسم أي "الترند"، فتقوم بتدوين الأفكار وتسعى للنشر عبر صفحتها على مواقع التواصل الاجتماعي ليراها العالم من خلال مشاركات الأصدقاء لها، كونها تعتبر الانترنت نافذتها على العالم الخارجي الذي تعلمت منه في بداياتها كيفية إنتاج لوحات متقنة الإخراج بحيل وطرق متعددة.
وأوضحت أنها لم تولد فنانة بل أرادت أن تكون كذلك من خلال ما تمتلكه من مهارات بسيطة لتدعمها بعد ذلك باختيار تخصصها الجامعي، كونها تيقن أن الفن يخدم قضايا الإنسانية جمعاء، لذلك عندما تقف اليوم أمام إحدى لوحاتها تقف وهي تنظر لنفسها نظرة فخر بعد أربعة سنوات من المثابرة والاجتهاد.
وأضافت أنه من خلال تلك الرسومات أيضاً تعرفت على المشاكل التي تعاني منها النساء دون أن يخبرنها بذلك، فعندما ترسم المرأة الرجل وتغمق الخطوط في رسم اليد يتم التأكد من أنها معنفة وتتلقى الضرب من زوجها أو أحد رجال العائلة، في حين رسم الأطفال للكثير من القبور ما هو إلا دلالة على مقتهم من تلك الحياة والرغبة في مغادرتها، بينما يعتبر رسم الراحلين من أفراد العائلة الذين فقدوا خلال الحرب سواء بالموت أو الأسر تعبر عن اشتياقهم لهم.
يعد أكثر ما يحزن ياسمين المدهون، أنها لم تستطيع أخذ بعض الصور الفتوغرافية للوحات التي فقدتها، لكنها ما زالت تحتفظ بها في ذاكرتها بعيداً عن الموت والخراب الذي تشهده المدينة منذ أكثر من 365 يوماً، على أمل أن يأتي اليوم الذي تنجلي فيه مآسي النساء والأطفال بغزة وتعود للوحاتها الألوان الزاهية بدلاً من الأسود والرمادي اللذان يسيطران على أي لوحة.