بين بتر الساق وبتر الوطن... حكاية نجاة لا تشبه النجاة

تبرز قصة سلمى العجلة كصرخة إنسانية تختزل وجع الحرب، ومرارة الفقد، وتحديات النجاة. لم تكن إصابتها مجرد جرح جسدي، بل كانت بداية رحلة طويلة من الألم. من غرفة عمليات بلا مسكنات إلى معبر حدودي يحملها بعيداً عن بيتها.

رفيف اسليم

غزة ـ خرجت الشابة سلمى العجلة من قطاع غزة قسراً، بعد أن نفذت حيل الأطقم الطبية في إنقاذ قدمها وتم تبليغها بشكل رسمي أن تستعد جسدياً ونفسياً كي يتم بتر قدمها في الأيام القليلة المقبلة، لكن شاءت الأقدار وتمكنت من استخراج تحويلة طبية لمصر، وتم هناك استعادتها لأمل المشي على قدميها مرة أخرى.

ربما تمكنت سلمى العجلة من استعادة أملها باسترجاع قدمها والمشي، بل الركض مرة أخرى لكن مع التشديدات التي فرضتها القوات الإسرائيلية وإعلانها بشكل رسمي عن نيتها بتطبيق خطة التهجير القسري للفلسطينيين، بتر لديها الأمل بحقها في العودة لمنزلها مرة أخرى.

 

"سوداوية المشهد"

أصيبت سلمى العجلة في تشرين الثاني/نوفمبر 2023 خلال حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة، وتقول "بعد نزوحي من شمال القطاع إلى جنوبه تحديداً للملاجئ الآمنة أو المنطقة الإنسانية التي حددتها القوات الإسرائيلية بدير البلح، لكن تلك المنطقة لم تكن آمنة ولا حتى إنسانية".

وأضافت أنها عندما شاهدت إصابتها بعد الضربة الإسرائيلية أيقنت أن رحلة علاجها لن تكون سهلة مطلقاً، لكنها عندما وصلت مشفى "شهداء الأقصى" وبقيت ساعات وهي تنزف على الأرض دون حتى سرير تتمكن من الاستلقاء عليه لكثرة المجازر التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية في تلك الليلة، أدركت سوداوية المشهد وما ينتظرها في الساعات القادمة.

ولفتت إلى أنها دخلت لغرفة العمليات لكن ليس لإجراء عملية علاجية، بل لإجراء جراحة تثبيت الكسور في قدمها اليسرى بعد إصابتها بتفتت في عظام الساق وفقدان لبعض اللحم والأنسجة، ومن ثم تبعتها بعمليتين جراحيتين بهدف تأخير بتر الساق فقط، دون وجود أي نوع من المسكنات، لتبقى أشهر طويلة دون نوم، وبعد شهرين أصبح لديها بداية غرغرينا، وأصبح البتر أمر لا مفر منه.

 

"تركت قلبي هناك بغزة"

وشاء القدر بأن تحدث معجزة، حيث تقول "في ذات اليوم صدرت التحويلة الطبية وتوجهت للمعبر وعندما وصلت المشفى بمصر أخبرني الطبيب بأنني لو تأخرت أسبوع واحد فقط لما تمكن أحد من صنع شيء لي"، مشيرةً إلى أنها هناك وجدت الأجهزة المناسبة التي مكنتها من التعافي وبدء رحلة العلاج والرعاية الطبية المناسبة، لكنها لم تكن سعيدة.

"تركت قلبي هناك بغزة"، بهذه الكلمات عبرت سلمى العجلة عن اليوم الذي تم إخبارها بأنها ستغادر القطاع حيث انهارت وتملكتها موجة بكاء هستيري، وأخذت تردد "لن أغادر القطاع حتى لو كان الثمن أن أفقد قدمي، أن أقتل خلال الحرب، لن أترك بيتي مرة أخرى"، لافتة إلى أنها كانت تعلم مسبقاً النوايا الإسرائيلية لمصير أي شخص يغادر القطاع، لكن ماذا كان بيدها أن تفعل.

لم تكن هذه المرة هي الأولى التي تغادر بها سلمى العجلة قطاع غزة، فلطالما غادرته عدة مرات في رحلات سياحية لكنها بكل مرة كانت على يقين من عودتها لمنزلها مرة أخرى، مشيرةً إلى أنها وهي في سيارة الإسعاف

كانت تنظر للطرقات وتودعها، لوجه أحبتها الذين التحقوا بركب المودعين في آخر لحظة ليتمنوا لها الشفاء العلاج، جميع تلك المشاهد كانت ولا زالت تحاصر ذاكراتها.

وتمنت سلمى العجلة لو أنها لم تخرج في ذلك الوقت العصيب وتركت أحبتها وحدهم "تمنيت لو كان بإمكاني الاحتفاظ بصورة أخرى لغزة بعيداً عن الدمار والخراب جميلة كما كانت دوماً"، مضيفة أنها تفتقد مسيرتها خلال المدرسة، والجامعة، أصدقاء العمل والتدريب، والسهرات الطويلة على شاطئ بحرها، تفتقد حياة كاملة بجميع تفاصليها لسنوات عاشتها.

 

لم تترك غزة فحسب بل تركت عمرها وتاريخها

لا تنسى سلمى العجلة، شعورها عندما أرسلت لها صديقتها صورة لمنزلها المدمر جزئياً وغرفة نومها، ملابسها المفضلة، وكتبها وأوراقها وشهادات التكريم التي حصلت عليها في الدراسة أو التدريبات العملية، لتشعر أنها لم تترك غزة فحسب بل تركت عمرها وتاريخها الذي لربما رغم صغر سنها أن تعود وتجني مثله.

وتقول "على الرغم من تصنيفي كناجية من رحى الإبادة، وسكني في شقة لا تطالها أصوات القصف والجوع، إلا أنني أشعر بعدم النجاة، فلطالما طوال الفترات الأولى من مكوثي بالمشفى تعرضت لنوبات صحية استدعت وضع الأوكسجين لي، وقد نصح الطبيب والدتي بسحب الهاتف وعدم متابعة أخبار غزة، فكيف أفعل وعائلتي وأحبتي لم ينجو بعد".

كانت لدى سلمى العجلة ما قبل الحرب على غزة، حياة ملونة ومرفهة استطاعت خلالها صعود درجات أحلامها فقد كانت ميسرة لأهم المؤتمرات العلمية والسياسية بالقطاع وقابلت العديد من الشخصيات البارزة، فشعرت دوماً بأن المايك والكاميرا جزء لا يتجزأن منها ولا تستطيع الانفصال عنهما، كما كان لها برنامج حواري لم تكمل تصوير حلقاته وكانت تتمنى لو أنه يرى النور، كأمنياتها بانتهاء الحرب والعودة لموطنها مرة أخرى.