بين النزوح والقصف... النساء الفلسطينيات على خط النار
تواجه النساء في قطاع غزة واقعاً قاسياً من تهجير قسري ومعاناة عميقة، وتصارعن للبقاء في وجه حصار لا يرحم ودمار لا يتوقف.
نغم كراجة
غزة ـ في الحرب المستمرة على قطاع غزة تبرز قصص الفلسطينيات كأيقونة للصمود، فبين النزوح القسري والفقدان والضغوطات النفسية، تعيش النساء واقع يومي مرير، فهن لسن مجرد أرقام في إحصائيات الحرب، بل تحملن على أكتافهن عبء الفقدان والفقر، وتكافحن للبقاء على قيد الحياة وسط الدمار.
راوية إسليم امرأة فلسطينية في الستينات من عمرها، تمثل واقع الفلسطينيات اللواتي تواجهن حرباً لا هوادة فيها على أرضهن المدمرة من كل جانب، والتي أنهكتهن ويلات الحروب فقصتها تبدأ من حي الشجاعية في غزة، أحد أكثر المناطق التي عانت من القصف والتدمير خلال الحرب المستمرة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر2023.
النزوح القسري والمعاناة المستمرة
كانت راوية إسليم التي تقطن في حي الشجاعية شاهدة على العديد من الهجمات منذ بدء الحرب، لكنها لم تفكر قط في النزوح، وتقول "كنا نظن أن القصف لن يطالنا، فنحن مدنيون لا علاقة لنا بالحرب، على الأقل مطمئنون بأنه لن تمسنا النيران"، لكن هذه الآمال تحطمت بسرعة بعد أيام قليلة من بداية الحرب، عندما ضرب القصف الحي المجاور لهم، مما أجبرهم على النزوح القسري إلى مجمع "الشفاء"، حيث لم يكن هناك مكان آخر للجوء إليه بسبب اكتظاظ المدارس والجامعات بالنازحين.
وفي مجمع "الشفاء" الطبي، قضت هي وأفراد عائلتها شهوراً صعبة في بيئة ملوثة خالية من أدنى المقومات الحياة، لكن هذا الملاذ المؤقت لم يكن آمناً كما اعتقدوا، فالقوات الإسرائيلية لم تتوان عن مداهمة المجمع، معلنةً عن اجتياحه برياً "كانت تلك لحظة مرعبة لكل النازحين داخل المجمع، حيث أجبرت آلاف العائلات للهرب مجدداً تحت تهديد الموت بالقصف المدفعي والجوي العشوائي".
النزوح المتكرر وفقدان الأمل
بعد نجاتها بأعجوبة من الهجوم على مجمع "الشفاء"، انتقلت هي وعائلتها إلى إحدى المدارس بحثاً عن مأوى مؤقت، ومع انتهاء العملية العسكرية، عادت إلى منزلها في حي الشجاعية، لكنها لم تكن تعلم أن الرعب لم ينته بعد، ففي نهاية آذار/مارس عاد الاجتياح البري بشكل مفاجئ، هذه المرة كان العنف أكثر شراسة ومباغتةً لم تتمكن راوية إسليم من الهروب، إذ كانت الرصاصات والقذائف تطير في كل مكان، والجميع في ذهول يفكر فقط كيف ينجو بأسرته قبل حصارهم، وتقول "لم نتمكن من الفرار وحاصرتنا القوات الإسرائيلية من كل اتجاه، وبدأت السيناريوهات تدور في عقلي ما هو مصيرنا؟".
حاصرت القوات الإسرائيلية المجمع حيث كانت تقيم، وقامت بتفتيش غرفه واعتقال الرجال أمام أعين النساء، بما فيهم ابن راوية إسليم وحينها تم إجبارها على النزوح مرة أخرى إلى مناطق الجنوب، لكنها رفضت النزوح عن منطقة الشمال وقررت أن تجازف بحياتها وتنزح إلى حي الشجاعية التي لا يمكن تسميته ملجأ بعد الدمار الذي حلّ به فلا مأوى ولا خيار آخر، وتوضح "لم تغرينا الاحتياجات الأساسية والمواد الغذائية التي نراها منذ أشهر طويلة، متوفرة في مناطق الجنوب، لذلك اخترت الصمود والموت في أرضي".
تحمل مسؤوليات جديدة، صمود بلا حدود
لم تتوقف معاناة راوية إسليم عند هذا الحد، إذ بقي ابنها معتقلاً لوقت طويل دون معرفة مصيره، حتى تأكدت لاحقاً من إحدى المؤسسات المعنية أنه لا يزال في السجن، هذا الاعتقال أضاف عبئاً جديداً على كاهلها، حيث أصبحت مسؤولة عن إعالة أبنائها وأطفال ابنها المعتقل، في ظل ظروف معيشية بائسة وقاسية، حيث الوضع المادي في شمال غزة قد وصل إلى نقطة الصفر نظراً لانعدام السيولة المالية وفرض قيود فوق المستطاع على السكان في المنطقة.
ارتفاع أسعار المواد الأساسية، انتشار الفقر، والمجاعة المتزايدة جعلت من حياة راوية إسليم، كفاحاً يومياً للبقاء على قيد الحياة، وعن ذلك تقول "كل يوم يمر هو تحدٍ جديد، فكل ما أريده هو توفير قوت اليوم لعائلتي، لكن حتى هذا أصبح صعباً في ظل الحصار وشح الموارد، نحن النساء نستطيع فعل كل شيء بأبسط الإمكانيات المتاحة لا يقوضنا أي ظرف"، مؤكدةً أن المرأة الفلسطينية في غزة تواجه نزوحاً قسرياً وفقداناً مريراً وتكافحن يومياً للبقاء والصمود وسط حصار خانق ودمار مستمر.
التدهور الصحي والأمل الأخير
إضافة إلى المعاناة اليومية، تعاني راوية إسليم من أمراض مزمنة كالسكري وأمراض القلب ومع تدهور حالتها الصحية، ازدادت صعوبة الحياة، لكنها لا تملك خياراً آخر سوى التحمل، مؤخراً بدأت تعاني من ألم شديد في عينيها أدى إلى ضعف بصرها، وهو نتيجة مباشرة للظروف القاسية التي تعيشها، حيث تقضي ساعات طويلة أمام النيران لإعداد الطعام لعائلتها.
ورغم كل ما مرت به، فإن أكبر مخاوفها اليوم، هو ألا تتمكن من رؤية ابنها المعتقل قبل أن تفقد بصرها بالكامل "أريد فقط أن أراه، قبل أن يفوت الأوان".
واقع النساء الفلسطينيات تحت الحصار
قصة راوية إسليم تمثل واقعاً مأساوياً تواجهه آلاف الفلسطينيات في غزة اللواتي لا تتعرضن فقط لفقدان أحبائهن أو نزوحهن من منازلهن، بل تعانين أيضاً من آثار الحرب النفسية والجسدية، ومن ضغوطات الحياة اليومية تحت الحصار، كما تواجه النساء في غزة يومياً تحديات كبيرة للبقاء على قيد الحياة لإعالة أسرهن في ظل اقتصاد مدمر وحصار خانق، ورغم كل هذه الصعوبات تظهرن قوة وصمود متمسكات بالأمل في ظل ظروف لا يمكن تصورها ووصفها.
مثل هذه القصص تذكرنا بالثمن الباهظ الذي تدفعه الفلسطينيات نتيجة النزاعات المسلحة، فهن تتحملن عبء الحفاظ على الأسرة وسط الفوضى، وتواجهن صعوبات تفوق التصور في بيئة لا ترحم، ورغم ذلك، يبقى الأمل موجود لدى كل امرأة فلسطينية على أمل أن يأتي يوم تنتهي فيه هذه المأساة.