عائشة بدران... بين مشقة الحياة ومرارة النزوح

عائشة بدران من مدينة سري كانيه/رأس العين إحدى النساء اللواتي ذقن مرارة النزوح وآلامها في ظل الحرب القائمة، حرمها الفقر من التعليم وهي صغيرة لتبدأ بالعمل في الفلاحة بيديها الصغيرتين الناعمتين تحت أشعة الشمس الحارقة

غدير العباس
الحسكة ـ .
تحملت المسؤولية منذ كانت طفلة بدأت بمساعدة العائلة في تحصيل رزقهم، كانت لقمة العيش أهم من طلب العلم وانتهى  بها المطاف زوجة لم تتجاوز الـ 12عاماً، لتترنح حياتها بين مشقة الحياة ومرارة النزوح القسري من مدينة لأخرى.
 
العمل وهي طفلة
لم تكن حياة عائشة بدران ذات الـ 55 عاماً، كحال بعض الفتيات اللواتي عشن طفولتهن، كان نصيبها أن تولد في عائلة فقيرة في مدينة سريه كانيه/رأس العين، وبذلك قد استغنت عن طفولتها لتعمل مع عائلتها فلاحة في الحقول ولم تكن يتجاوز عمرها آنذاك ثماني سنوات، لتساعد عائلتها على تأمين رزقهم تقول "لم أعش طفولتي كما يعيشها باقي الأطفال، كنت صغيرة عندما ذهبت مع عائلتي للعمل في زراعة الأراضي وحراثتها لنأمن لقمة عيشنا".
 
تزوجت وهي مازالت قاصراً
ما زاد من ضياع طفولتها وحياتها زواجها وهي قاصر في عمر الـ 12 عاماً، تزوجت عائشة بدران كغيرها من الفتيات بحكم العادات والتقاليد التي كانت وما زالت تسيطر بشكل كبير على المجتمع منها زواج البدل، "كنت في الثانية عشرة من عمري عندما زوجني أبي من ابن عمي لأكون بديلة لأخي مع ابنة عمي".
ولا تمتلك الفتيات اللواتي تزوجن زواج البدل الحد الأدنى من الحقوق، فقد يرتبط مصيرهن بمصير بديلاتهن كالتوأم الملتصق، فأي عائقة تواجهها إحداهن مع زوجها تواجه الثانية مشكلة على أضعاف الأولى ما تؤدي في معظم الأحيان إلى ممارسة العنف الجسدي أو الطلاق كأدنى حد من العنف. 
ففي مجتمع لا يعترف إلا بمفهوم ستر الفتيات وتأمين حياة الشباب على حسابهن، يعتبر زواج البدل صفقة تعدها عائلتان توفيراً لنفقات الزواج فالشاب يعقد القران على زوجته في الوقت الذي تتزوج شقيقته من شقيق زوجته لتنتج دوامة من التعقيدات تمر بها النساء.
لم يغير الزواج شيء من حياتها بل أكملت عائشة بدران عملها في الفلاحة، في الوقت الذي كان يجلس زوجها في المنزل ممداً دون تحمل مسؤوليات عائلته على مدى ثمانية أعوام "اضطررت للعودة إلى العمل في حراثة وزراعة الأراضي الزراعية لتأمين احتياجات أطفالي... لأن وضعنا المعيشي كان سيئاً"، وأصبحت مسؤولة عن تربية أطفالها ورعايتهم إلى جانب دورها كأم وزوجة وتقوم بعملها خارج المنزل.
 
"كنت الأب والأم لأولادي"
أجبرتهم الأوضاع المعيشية السيئة والفقر على ترك منزلهم والتوجه إلى مدينة دمشق في عام 1994، لعلهم يحسنون ظروفهم الاقتصادية التي أنهكتهم، استقرت العائلة في العاصمة حتى كبر أبنائها، ومع مرور الأيام والسنوات تحسنت أحوالهم بعض الشيء، أنجبت عائشة خلال تلك السنوات 9 أولاد و5 فتيات، زوجت اثنان من أبنائها في مدينة دمشق، ونتيجة تقدمها في السن توقفت عائشة بدران عن العمل.
إلا أن رحلة معاناتها لم تنتهي عند هذا الحد بل ما زاد من غربتها عن مدينتها هجر زوجها عندما كانت حاملاً في أشهرها الأولى بأصغر أبنائها، ليتزوج من امرأة أخرى ويقضي ما تبقي من عمره معها، وتبقى هي مع معاناتها تتحمل مسؤولية أبنائها لوحدها "لأكون لأبنائي الأب والأم في ذات الوقت" متناسياً كم تحملت المشقة والتعب طوال السنوات التي عاشت معه على السراء والضراء. 
 
العودة إلى سري كانيه ثم النزوح 
لازمتها هي وأبنائها المشقة والحرمان إلى حين اندلاع الحرب في عام 2011، التي أجبرت العائلة على العودة إلى مسقط رأسهم في مدينة سري كانيه/رأس العين، إلا أنهم لم يجدوا الأمان في ذاك الوقت لتضطر إلى النزوح من مدينتها عندما اقتحمت مجموعات إرهابية وهي مرتزقة "الجيش الحر" و"جبهة النصرة" في صبيحة الـ 8 من تشرين الثاني/نوفمبر 2012، تاركة منزلها في أيدي الإرهابيين.
وتوجهت عائشة بدران مع عائلتها إلى مدينة الدرباسية، ليستأجروا منزلاً هناك، وحين علموا بأن مدينة سري كانيه/رأس العين قد تحررت بشكل كامل على يد وحدات حماية الشعب والمرأة في الـ 16 من تموز/يوليو 2013، عادوا إلى المدينة ليبنوا حياتهم من جديد بعد معاناة نزوح دامت ستة أشهر "عدنا إلى مدينتنا وأعدنا بناء منزلنا من جديد لنعيش حياة طبيعية وكأننا عدنا إلى نقطة البداية بعدما حررت وحدات حماية الشعب والمرأة مدينتنا من الإرهابيين والمرتزقة".
 
تكرار مشهد النزوح
بعد عدة سنوات وعودة عائشة بدران وعائلتها إلى حياتهم الطبيعية عاد الرعب ليخيم على قلوبهم، فقد تحولت مدينة سري كانيه/رأس العين مرة أخرى إلى جبهة صراع عسكري، ففي التاسع من تشرين الأول/أكتوبر 2019، شن الاحتلال التركي عملية عسكرية بمساندة من مرتزقة ما يسمى بـ الجيش الوطني السوري، أطلق عليها مسمى "نبع السلام" لاجتياح مناطق شمال وشرق سوريا.
ورافقت العملية العسكرية نزوح معظم سكان المدينة قسراً بعد تعرضها لقصف جوي ومدفعي عنيف، وشدت عائشة مع عائلتها كباقي السكان رحالهم مرة أخرى في وقت بقي فيه عشرات المدنيين عالقين في مناطق الاشتباك ضمن المدينة حتى فرض الاحتلال التركي الحصار الخانق على المدينة في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019.
وبعد إخلاء السكان للمدينة، افترشت الطرقات بأبناء المدينة واكتظت بسيارات النازحين المتوجهين إلى مدينة الحسكة، وكانت عائشة بدران وعائلتها من بينهم لتبدأ معاناتها مع تجربة النزوح القسري للمرة الثانية.
وبعدما وصلوا إلى مدينة الحسكة توجهوا إلى المدارس والمراكز التي تأوي النازحين من المدن الحدودية التي تعرضت للقصف المدفعي والجوي، وكانت عائشة بدران من بين هؤلاء النازحين الذين توجهوا إلى معهد الشهيد جيا في حي الصالحية بمدينة الحسكة، لتمكث في غرفة واحدة مع أبنائها وأحفادها "بتنا لاجئين لا مكان يأوينا ولا قوة تحمينا".