عاهات مستديمة... عراقية هزمت الألم بالأمل والتحدي
في ظل ما تعانيه النساء من نظرة نمطية، شددت العراقية سارة جاسم على ضرورة توفير مساحات آمنة للنساء سواء كانت مجموعات دعم نفسي أو منصات للتحدث عن تجاربهن لتجاوز الأزمات الجسدية والنفسية والتحديات التي تواجههن في المجتمع.
![](https://jinhaagency.com/uploads/ar/articles/2025/02/20250208-almadt-jpg2424da-image.jpg)
رجاء حميد رشيد
العراق ـ انقلبت حياة الشابة العشرينية سارة جاسم رأساً على عقب منذ عام 2007 حين دوت الأرض بانفجار هائل لسيارة مفخخة أمام الجامعة المستنصرية في العاصمة العراقية بغداد تزامناً مع وصولها مع زميلاتها لشراء مستلزمات دراسية، لتكون بداية لحكاية مع الألم والتحدي والانتظار.
ترك ذلك الحادث الأليم عاهات مستديمة لدى سارة جاسم حيث أصيبت ركبتها اليمنى وتفاقمت إلى التهاب مزمن مع ورم متكرر وإجراء ثلاثة عمليات استئصال وأخذ جلسات علاج (إشعاع)، وانفتاح طبلة الأذن اليمنى نتيجة الالتهابات وفقدان 70% من حاسة السمع مما اضطرها للاستعانة بسماعات طبية.
وعن تفاصيل الحادث، قالت سارة جاسم إنها توجهت إلى الجامعة في ذلك الصباح الباكر برفقة بعض زميلاتها وزملائها لشراء اللوازم الدراسية، وما هي إلا لحظات حتى حدث الانفجار مما أدى إلى إصابتها في ركبتها اليمنى.
وأضافت "تراكُم الالتهابات أصاب طبلة أذني وأدى إلى فقدان 70% من سمعي، كانت تلك الصدمة الثانية، لم أكن أتخيل يوماً أنني سأضطر إلى ارتداء سماعة طبية لأستعيد جزءاً من قدرتي على السمع، أصبحت الحياة أكثر صمتاً، ومع كل خطوة، كنت أكتشف أبعاد الألم الذي لا يمكن ملاحظته، إلا إذا كنت تعيشه منذ تلك اللحظة، لم تكن الحياة كما كانت من قبل. ما بدا كحادث عابر تحوّل إلى تحدٍّ طويل الأمد، رحلة من الألم، التحمل، والصبر على ما لا يمكن تغييره".
وعن التحديات التي واجهتها سواء على الصعيد الصحي البدني أو النفسي قالت "بعد الحادث، لم يكن من السهل استيعاب ما حدث أو التعايش مع تداعياته، في الأيام الأولى، كنت غارقة بين الألم الجسدي والذهني، بين الكوابيس التي كانت تعيد المشهد أمامي كل ليلة، وبين التساؤلات التي لم أجد لها إجابة: لماذا كنت هناك؟ لماذا أنا؟ كيف أستمر بعد كل هذا؟".
وأكدت سارة جاسم بأنه لم يكن من السهل العودة إلى الجامعة وإكمال الدراسة بعد ذلك، مجرد التفكير في الذهاب إلى المكان الذي شهد ذلك اليوم جعلها تشعر بالاختناق، لكنها لم تكن تريد الاستسلام "شعرت أنني إن انسحبت، فإنني سأخذل من رحلوا عنا، فقررت أن أعود، وجدت في الحديث مع الأشخاص المقربين متنفساً، وفي الكتابة ملجأً أعبر فيه عن كل ما لم أكن أستطيع قوله بصوت عالٍ، شيئاً فشيئاً، تعلمت كيف أتعامل مع مخاوفي، كيف أعيش مع الذكرى دون أن تدمرني، أدركت أنني لست الضحية فقط، بل الناجية أيضاً، وأن الحياة، مهما كانت قاسية، تستحق أن تُعاش، حتى لو كان علينا أن نحمل معنا ندوب الماضي".
وعن رحلة علاجها، لفتت إلى أنها كانت رحلة طويلة ومؤلمة، امتدت لسنوات بين العمليات الجراحية داخل العراق وخارجه، كل عملية كانت تحمل معها الأمل في التحسن، لم يكن الألم الجسدي وحده هو ما جعل هذه الفترة صعبة، بل أيضاً الإرهاق النفسي والشعور بأنها في معركة مستمرة من أجل حياتها السابقة، مضيفةً "كانت المستشفيات مكتظة، والأوضاع الطبية صعبة وهجرة الأطباء بالجملة ولم يكن الحصول على العلاج المناسب سهلًا، فالإمكانيات محدودة، والأطباء يعملون وسط ظروف قاسية، كنت أشعر أنني مجرد رقم آخر بين المرضى الذين يحملون جراح العنف الطائفي، لكنني كنت أتمسك بأي فرصة للعلاج والتحسن".
وتابعت "هذه التجربة لم تغير فقط حياتي، بل أعادت تشكيل شخصيتي، أصبحت أكثر وعياً بقيمة الحياة، أكثر تقديراً للأشياء الصغيرة التي كنت أعتبرها بديهية من قبل، تعلمت أن لا شيء مضمون، وأن القوة الحقيقية تكمن في القدرة على النهوض بعد كل سقوط".
وعن أزماتها النفسية نتيجة فقدان عملها وإحالتها إلى التقاعد في سن مبكر جداً لأسباب صحية، أوضحت أن "إقالتي كانت واحدة من اللحظات الصعبة التي مررت بها، ربما لأنها كانت تعني أنني لم أعد أملك الخيار، وأن شيئاً آخر في حياتي قد سُلب مني بسبب ذلك اليوم المشؤوم، كنت أشعر بالغضب، بالحزن، وأحياناً بالإحباط المطلق، لذلك قررت إيجاد طريقة جديدة للعيش، حتى لو كانت مختلفة عن الطريقة التي تخيلتها، تحدثت مع أشخاص مروا بتجارب مشابهة، لم أكن بحاجة إلى نصائح بقدر ما كنت بحاجة إلى من يسمعني دون إصدار أحكام".
ولفتت سارة جاسم إلى أنه "كنت أعتقد أن العمل كان جزءاً أساسياً من هويتي، لكنني بدأت أبحث عن طرق أخرى للشعور بالإنجاز، جربت الكتابة، القراءة، والعمل التطوعي، بدأت أدرك أن هناك طرقاً أخرى لأكون مفيدة، وأن التقاعد من الوظيفة لا يعني التقاعد من الحياة، اهتممت بصحتي العقلية والجسدية، بدأت أمارس الرياضة بعد التعافي، هذه العادات البسيطة ساعدتني في تهدئة عقلي وتخفيف القلق الذي كان يرافقني. كما وضعت أهدافاً جديدة لحياتي، فبدأت في التفكير بمشاريع صغيرة".
وعن عملها حالياً مع منظمة مدنية متخصصة في شؤون المرأة، قالت "العمل مع منظمة مدنية متخصصة في شؤون المرأة جعلني أرى بشكل أوضح الدور الكبير الذي يمكن أن تلعبه هذه المنظمات في دعم النساء اللواتي تعرضن للصدمات سواء بسبب العنف، الحروب، الأوضاع الأمنية أو حتى التحديات الصحية، بحاجة إلى دعم حقيقي يساعدهن على استعادة قوتهن والاستمرار، هناك العديد من الطرق التي يمكن أن تساعد بها المنظمات المدنية، مثل جلسات الدعم النفسي، فوجود مساحات آمنة للحديث والتعبير عن الألم يمكن أن يكون خطوة أولى نحو التعافي".
فمن المهم أن تشعر النساء بأنهن قادرات على استعادة حياتهن بعد الصدمة، وكذلك الاستقلال المالي هو أحد أهم العوامل التي تساعد المرأة على تجاوز الأزمات، يمكن للمنظمات توفير منح صغيرة، أو دعم مشاريع نسائية، أو حتى توفير فرص توظيف مناسبة للنساء اللواتي فقدن وظائفهن بسبب ظروف صحية أو اجتماعية.
وعن تجربتها الشخصية التي ساعدتها في فهم أعمق لحقوق المرأة، بينت "تجربتي الشخصية منحتني فهماً أعمق وأوسع لحقوق المرأة، خاصة فيما يتعلق بالصحة النفسية والتحديات الصحية التي تواجهها النساء في المجتمعات التي تفتقر إلى أنظمة دعم قوية، لم يكن الألم الذي مررت به مجرد تجربة فردية، بل كان نافذة لرؤية كيف يتم التعامل مع النساء اللواتي يعانين من تحديات صحية ونفسية، وكيف يمكن تحسين هذا الواقع من خلال تعزيز حقوق المرأة في هذه المجالات".
وأضافت "أدركت أن الصحة النفسية ليست رفاهية، بل حق أساسي يجب أن تتمتع به كل امرأة. ويجب على الأنظمة الصحية والمجتمعات دعم النساء من خلال توفير الرعاية النفسية المجانية أو بأسعار معقولة، ورفع الوعي حول أهمية العلاج النفسي دون خوف من الوصمة الاجتماعية".
واختتمت سارة جاسم حديثها بتوجيه رسالة إلى كل النساء العراقيات "رسالتي إلى النساء اللواتي يواجهن تحديات كبيرة في حياتهن هي أنكن لستن وحدكن، وأن القوة التي تحملنها في داخلكن أعظم مما تتخيلن، أعلم أن الحياة قد تكون قاسية، وأن الظروف تجبرنا على خوض معارك لم نخترها، لكنني أؤمن أن كل امرأة عراقية تحمل في داخلها روح الصمود، لتجاوز الألم، فهو جزء من رحلتكِ نحو التعاف".