اتفاقية وحملات ساهمت في كسر ثقافة الصمت فيما يخص التحرش الجنسي والعنف الوظيفي

لم تعد ظاهرة التحرش الجنسي والعنف الوظيفي ضد النساء والعاملات منهن، مقتصرة على بلد معين، بل بدأت تتفشى في كافة أنحاء العالم وبشكل ملحوظ، وإن تباينت نسب وجودها تبعاً لحجم التفاوت الوظيفي

مركز الأخبارـ .
أعادت حملات إلكترونية قضية التحرش الجنسي والعنف في أماكن العمل إلى واجهة النقاش حول العالم، وأبرزت افتقار ضحايا التحرش لملاذ آمن على أرض الواقع، استعاضت عنه كثيرات بواقع افتراضي عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
 
مصطلح "التحرش الجنسي" وبداية تداوله
يعتبر مصطلح "التحرش الجنسي" مصطلحاً جديداً نسبياً تم تداوله في عام 1973 في "حلقات زحل" وهو تقرير قدمته مستشارة معهد ماساشوستس للتكنولوجيا "ماري رو"، تناول التقرير الأشكال المختلفة للقضايا الجنسية ومنها التحرش الجنسي. وقد صدر التقرير على إثر وقوع حوادث تحرش عرقي أي مضايقة النساء الملونات.
وظهر مصطلح التحرش الجنسي أيضاً في كتاب "التحرش الجنسي بالنساء العاملات" لعام 1977 للكاتبة والمحامية والناشطة النسوية كاثرين ماكينون.
وكانت الناشطات فريدا كلاين ولين ويرلي وإليزابيث كونستونز، أول من لفتن انتباه الرأي العام إلى مصطلح التحرش الجنسي أواخر السبعينات، على إثر الازدياد المطرد في عدد شكاوى التحرش في أمريكا وكندا، وتوجيه المحامية الأميركية أنيتا هيل تهمة تحرش ضد المرشح للمحكمة العليا في الولايات المتحدة كلارينس توماس.
 
التسريح من العمل... عقاب الضحية
من أكثر الأسباب التي تؤدي إلى تفشي ظاهرة التحرش والعنف في أماكن العمل، اضطرار ضحايا التحرش وخاصة النساء، الابتعاد عن الإبلاغ بتعرضهن للتحرش أو العنف واكتفائهن بالانسحاب والتزام الصمت، فـ19% من النساء في العراق فقط تضطررن إلى تقديم تنازلات فضلاً عن خشيتهن فقدان عملهن.
فيما أكثر من 89% من النساء حول العالم ترفضن تقديم التنازلات والتعرض للتحرش الجنسي في أماكن العمل أو المضايقة، ما يؤدي إلى التسريح من العمل أو الإقالة وتصبح في مواجهة صعوبات تأمين عمل جديد. 
وقد وصلت نسبة النساء اللواتي اضطررن إلى إخفاء تعرضهن للتحرش أو العنف في أماكن العمل خوفاً من الوصمة الاجتماعية إلى 98%، فمع كل واقعة تحرش أو اعتداء جنسي تخرج إلى العلن، تتجه الاتهامات إلى الضحية ولا تضطر إلى مواجهة المتحرش فحسب، بل تصطدم الضحية بمنظومة اجتماعية كاملة، تبرر فعل الجاني وتصم الناجيات منه بأفظع الألقاب، حيث تعزف معظم النساء عن تقديم الشكاوى بسبب الاتهام المسبق لهن بتشجيع المتحرشين من خلال شكل الملابس أو الخروج في أوقات غير مناسبة لاعتبارات مجتمعية.
ومن أهم الأسباب أيضاً التي تزيد من تفشي ظاهرة التحرش والعنف الوظيفي، ضعف النصوص القانونية التي تزعم أنها تحمي المرأة وتنصفها، وتعاني غالبية القوانين من إشكالية تقديم الدليل والإثبات لواقعة التحرش الجنسي والعنف الوظيفي، حيث يطلب من المرأة تقديم إثبات على ما تعرضت له، مع العلم أن تقديم شاهد أو دليل على التعرض للتحرش أو العنف أصعب ما يكون في قضايا التحرش.
فيما ربطت بعض الدراسات التي أجريت حول التحرش والعنف في أماكن العمل، بين التحرش الجنسي وانتشار الفساد وغياب الرقابة في الدوائر، فبحسب الدراسات فأن الفساد المالي والإداري في بعض أماكن العمل حول العالم والبلدان العربية بشكل خاص يؤدي بصورة ما إلى الفساد الأخلاقي، خاصة وأن الكثير من حالات التحرش الجنسي ضد المرأة في العمل تنتج عن رؤسائها الرجال، لما يتمتعون به من سلطة ونفوذ دون رقابة.
 
تبني اتفاقية العمل الدولية (190)
في سبيل التعامل مع قضية العنف والتحرش في أماكن العمل بشكل محدد والتأكيد على الحق بعالم خالٍ منهما، تبنت منظمة العمل الدولية "اتفاقية العمل الدولية رقم (190)" بشأن القضاء على العنف والتحرش في عالم العمل. 
وهي أول اتفاقية تتعامل مع العنف والتحرش في العمل، وأهم الاتفاقيات التي تفيد كافة أفراد المجتمع، حيث أنها تخاطب فئة النساء والرجال، وتساهم في القضاء على الظاهرتين وخلق بيئات عمل آمنة لهم.
وتبنت منظمة العمل الدولية الاتفاقية خلال عقد دورتها الـ 108 في مدينة جنيف السويسرية المصادفة لذكراها السنوية المائة، من 10 حتى 21 حزيران/يونيو 2019، على خلفية الحركات العالمية التي غيرت النماذج في كيفية الاستجابة لقضية العنف وكيفية انخراط المنظمات والمؤسسات في مواجهة العنف والتحرش، كالحركة النسائية الاجتماعية "Me Too" التي انطلقت في الـ 15 من تشرين الأول/اكتوبر 2017 لمناهضة وكسر ثقافة الصمت عن العنف والتحرش الجنسي ضد المرأة، وحركة "تايمز آب Time's Up" التي انطلقت في الأول من كانون الثاني/يناير 2018 من قبل مشاهير هوليود.
والاتفاقية (190) المعززة بالتوصية رقم (206) فيما يخص إنهاء العنف والتحرش في عالم العمل لعام 2019، معيار ملزم قانونياً للعاملين، يتعامل مع قضية العنف في العمل ويعترف بالعنف المبني على نوع الجنس.
وشكلت الاتفاقية فرصة غير عادية لمضي النقابات في كفاحها ضد العنف القائم على النوع الاجتماعي، فللنقابات دور مهم في التأكيد على أن تصبح الاتفاقية جزءاً من القوانين الوطنية، والتي من مهامها رفع الوعي وتوفير المعرفة لأعضاء النقابات والمجتمع ككل، والقيام بحملات نشطة للتصديق على الاتفاقية في كافة بلدان العالم بحسب منظمة العمل الدولية.
وترى المنظمة أن التحرش والعنف أو ما يندرج تحت مسمياته من ابتزاز أو مضايقة أو تنمر إحدى الآثار السلبية التي تنعكس على حياة المرأة من حيث التقدم الوظيفي وظروف العمل، ومن الممكن أن يؤدي في بعض الأحيان إلى مغادرتها ساحة العمل والركود في المنزل، وهذا ما يسبب الشرخ الواسع في مبدأ المساواة، وتقلل من نسبة مساهمة النساء في سوق العمل.
 
للتحرش والعنف أشكال وملامح مختلفة
تُعرف اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم (190) العنف والتحرش على أنهما "نطاق من السلوكيات والممارسات غير المقبولة أو التهديدات المرتبطة بها، سواء حدثت مرة واحدة أو تكررت، والتي تهدف أو تؤدي أو يحتمل أن تؤدي إلى إلحاق ضرر جسدي، نفسي، جنسي أو اقتصادي، وتشمل العنف والتحرش على أساس النوع الاجتماعي".
وللتحرش الذي يحصل خلف الأبواب المغلقة ملامح وأشكال مختلفة، منها التلميحات الجسدية والتعليقات المبطنة بعبارات الغزل، والإلحاح في طلب اللقاء خارج المكتب أو في مكان مغلق بعيداً عن الأنظار، والنظرات ذات الدلالات الجنسية، وأحياناً تتطور لتصل إلى اللمس والتحسس لجسد المرأة.
ويمكن أن يحدث التحرش في عالم العمل في أي مكان عبر الانترنت أو مكان العمل، أو أثناء التنقل أو في الأماكن التي يستريح فيها العمال، وكذلك اللقاءات الاجتماعية.
والعنف الوظيفي أيضاً يتخذ أشكالاً مختلفة، فمنها السلوك المعنوي الذي يمارسه رب العمل أو الزميل أمام الموظفة، للتقليل من قدراتها وابتكاراتها الإبداعية وعدم قدرتها على أداء مهامها بالشكل المطلوب.
كما يتخذ العنف الوظيفي شكل العنف اللفظي الذي يمارس إما بالتوبيخ أو بعبارات غير لائقة بمكانة المرأة، أو عدم إعطائها الفرصة أو المجال للتعبير عن رأيها، بينما العنف الجسدي يمكن أن يطال جسد المرأة أو استغلالها واستنزاف طاقاتها في العمل عبر الضغط والإجبار على إطاعة الأوامر والتدخل في حياتها وخصوصياتها والتهديد بالفصل وخلافه.
 
حملات مناهضة للعنف الوظيفي والتحرش الجنسي
ويمثل الإعلام الدور الأكبر في التوعية بالتحرش الجنسي والعنف حيث يقع على عاتقه طرح قضايا التحرش الجنسي والمساهمة في معالجتها وتسليط الضوء عليها والأخذ بعين الاعتبار مدى استفحال وتفشي هذه الظاهرة، وتوضيح الآثار السلبية التي تخلفها ومواجهة المخاطر التي تحيط بها.
وعليه أن يعمل على إبراز دور المرأة الريادية في كافة مجالات الحياة، وهذا من شأنه أن يعزز ثقتها بنفسها ويجعلها تقابل الموقف بكل قوة. كما وعليه أن يساهم بشكل فعال في توعية المجتمع من خلال إبراز ونشر الحملات المناهضة للتحرش والعنف، كالحملة الإلكترونية المناهضة للتحرش والعنف في أماكن العمل التي أطلقتها منظمة العمل الدولية بالتعاون مع هيئة الأمم المتحدة في الـ 21 من حزيران/يونيو 2020، بالتزامن مع الذكرى السنوية الأولى لتبني المنظمة اتفاقية مناهضة التحرش والعنف في أماكن العمل (190).
وسعت الحملة التي استمرت 4 أيام عبر مواقع التواصل الاجتماعي إلى إيجاد تشريعات تكفل للمرأة حقوقها وتقدم لها الدعم وسط ساحة عمل خالية من العنف والتحرش بكافة أشكاله، بالتعاون مع شركاء اجتماعيين، منها الوكالة السويدية للتعاون الإنمائي الدولي والسفارة النرويجية في العاصمة الأردنية عمان.
ودعت الحملة إلى تقوية تدابير الوقاية، وتعزيز قاعدة المعرفة فيما يخص ظاهرتي العنف والتحرش في أماكن العمل، التي تؤثر سلباً على المجتمعات بشكل عام، وضمان وصول المتعرضات للتحرش إلى العدالة والإنصاف بشكل آمن.
وقد نشرت منظمة العمل الدولية، رسائل قصيرة قد تلقتها خلال الحملة التي أطلقتها عبر منصات التواصل الاجتماعي لنساء تعرضن في أماكن عملهن إلى عمليات تحرش وابتزاز، تبينت فيها تأثر الضحايا نفسياً، صحياً، واقتصادياً بالعنف والتحرش وسط ساحة العمل، الذي تفاقم في الآونة الأخيرة في ظل تداعيات أزمة فيروس كورونا "كوفيد ـ 19".
وقد استلهمت المنظمة إطلاق الحملة الإلكترونية من التجارب الكثيرة التي روتها النساء في أعقاب حملة "Me Too" التي انطلقت لكسر ثقافة الصمت عن التحرش الجنسي والعنف ضد النساء في الـ 15 من تشرين الأول/اكتوبر 2017 كوسم عبر موقع التواصل الاجتماعي، وهي حركة نسائية اجتماعية عالمية أعطت ضحايا التحرش من النساء فرصة الكشف عن التحرش الذي تعرضن له والبوح بتفاصيل الحوادث التي مررن بها.
وبدورها أطلقت منظمة "أكشن آيد Action Aid" في أواخر عام 2019 حملة وطنية تهدف لمناهضة العنف والتحرش في مكان العمل في الأردن، لتعزيز وبناء نماذج فاعلة للجهد التعاوني بين أصحاب العمل والنقابيين والناشطين الاجتماعيين في هذا العمل. وهي حركة عالمية تناضل من أجل حقوق المرأة والعدالة الاجتماعية والقضاء على الفقر.
ودعت خلال الحملة الأردن إلى المصادقة على اتفاقية (190)، لتوفير بيئة لائقة سواء للمرأة أو الرجل في عالم العمل، ولعدم تعرضهم لأي نوع أو شكل من أشكال التحرش أو العنف، وعلى إثرها بدأت الأردن تتخذ خطوات لحماية العمال.
 
عام على تبني اتفاقية (190)
وبمرور عام على تبني منظمة العمل الدولية لاتفاقية مناهضة العنف والتحرش في عالم العمل رقم (190)، انطلقت عمليات التصديق عليها ودخولها حيز التنفيذ، وكانت الأوروغواي من أولى دول العالم التي صادقت على الاتفاقية في الـ 12 من حزيران/يونيو 2020.
ومن الدول التي حذت حذو الأوروغواي وصادقت على الاتفاقية "الأرجنتين، إيرلندا، أيسلندا، بلجيكا، فرنسا، الفلبين، ناميبيا، فيجي، فنلندا، ألمانيا، إيطاليا، إسبانيا، أوغندا وجنوب أفريقيا".
ويتوقع ناشطون مناهضون للتحرش والعنف ضد المرأة، أن تحذو المزيد من الدول حذو الدول التي صادقت على الاتفاقية، كما أنهم يتوقعون أن تجري العديد من الدول إصلاحات وطنية حتى وإن لم تصادق على الاتفاقية.
 
نسب التحرش الجنسي حول العالم
تشير الدراسات والإحصائيات حول ظاهرة التحرش بأن دول الغرب وبمساحات الحرية الجنسية الواسعة فيه إضافة إلى استقرار المستوى المعيشي، إلا أن التحرش في بقاعه تمثل أزمة حقيقية. وقد أشارت منظمة الأمم المتحدة إلى أن امرأة من بين ثلاث نساء تتعرض للتحرش الجنسي يومياً.
بحسب منظمة العمل الدولية فقد بلغت في عام 2019 نسبة تعرض النساء للتحرش الجنسي أو العنف الوظيفي في أماكن العمل 77% في أفريقيا، وفي أوروبا بلغت نسبتها ما بين 45% إلى 55%، وفي أميركا اللاتينية من 30% إلى 50%، وفي آسيا ومنطقة المحيد الهادي من 30% إلى 40%.
وأشارت في تقريرها حول العنف والتحرش الجنسي في أماكن العمل لعام 2019، إلى أن نسبة تعرض النساء العاملات في المجالات العامة حول العالم بلغت الـ 50%، بينما بلغت نسبة تعرض الطالبات الجامعيات للتحرش الجنسي أو العنف 20 إلى 50%.
وقد إحصائية عام 2018 فإن 60% من النساء في الولايات المتحدة الأمريكية، تعرضن للتحرش الجنسي مرة واحدة في حياتهن على الأقل، في حين أن 100% من النساء في فرنسا يتعرضن للتحرش في وسائل النقل والمواصلات العامة.
ولا تختلف السويد والدنمارك عن سابقاتها، فبالرغم من تمتعها بالحرية الجنسية وارتفاع مستوى المعيشة، إلا أنهما في رأس قائمة الدول الأوروبية التي تكثر فيها نسب التحرش الجنسي والتي تتراوح ما بين 80 و100%.
وفي بلدان الشرق الأوسط أشارت احصائية لعام 2019، أن مصر تعد من أكثر البلدان تحرشاً بالنساء والتي انتقلت من صورتها اللفظية إلى تحرش مباشر.
فيما أكد تقرير نشره مركز البيان العراقي للدراسات والتخطيط، حول التحرش ضد النساء، على أن نسبة التحرش الجنسي في المؤسسات الخاصة يصل إلى 70% مقارنة بمؤسسات القطاع العام.
وأوضح تقرير لمركز البيان للدراسات والتخطيط حول التحرش والعنف في أماكن العمل لعام 2019، أن نسبة تعرض المرأة في العراق للتحرش والابتزاز في أماكن العمل، بلغت الـ 67%، فيما بلغت نسبة تعرض النساء اللواتي تتراوح أعمارهن ما بين (19 ـ30 عاماً) 68%. وبحسب دراسة حول نسب تعرض النساء للتحرش الجنسي لعام 2019، بلغت نسبة التحرش ضد النساء في العراق نحو 77%.
وقد أظهرت نتائج الدراسة أن السودان تأتي بعد مصر والعراق التي تنتشر فيها ظاهرة التحرش بشقيه اللفظي والجسدي أو الجنسي، حيث بلغت نسبة التحرش في البلاد 35%، وقد تساوت النسبة في الجزائر والمغرب عند 23%، وفي لبنان بلغت نسبة 19%، في حين بينت أن تونس وليبيا والأردن أقل الدول العربية عرضة للتحرش إذ تراوحت النسبة بين 5 ـ 7%.
فيما أفاد تقرير "نساء صامتات" لعام 2019 أن 52% من النساء الأردنيات و73% من النساء اللاجئات السوريات اللواتي سعين للحصول على استشارات قانونية حول قضايا تتعلق بالعمل أو التحرش في مكان العمل، أنهن قمن بالتبليغ بشكل غير رسمي عن تعرضهن للتحرش الجنسي.