النازحة مها... 56 عاماً من المعاناة زادها النزوح آلاماً

مها محمد من أهالي قرية آخ زيارات في سري كانيه/رأس العين لا تخلوا قصتها من المآسي، وزاد النزوح من أسى قلبها، وعلى الرغم من وقوع المسؤوليات الأكبر على عاتقها إلا أنها أثبتت قدرتها على تحمل مشقة الحياة والحرب

غدير العباس
الحسكة ـ .
لم تنتهي المعاناة التي قادتها الحرب على سكان شمال وشرق سوريا منذ اندلاع شرارتها ربيع 2011 لتزيد من ثقلها على كاهل النساء اللواتي كن ضحية الذهنية الذكورية المفروضة من قبل المجتمع، وأصبحن الآن هدفاً وضحية للحرب.
 
اليتم مبكراً 
تشبه قصة مها محمد (56عاماً)، قصص العديد من النساء في سوريا، شاءت الأقدار أن تعرف معنى اليتم مبكراً عندما توفي والدها وهي رضيعة، تقول "لم يكن عمري يتجاوز عدة شهور... بحسب ما روته لي أمي... كانت أختي تبلغ من العمر عام ونصف العام، أما شقيقي فكان يبلغ من العمر 5 أعوام تقريباً".
اختارت مها محمد اسم مستعار خوفاً على حياتها وحياة عائلتها من انتقام عناصر مرتزقة ما يدعون أنفسهم بـ "الجيش الوطني السوري" المتواجدون في مدينتهم سري كانيه/رأس العين.
وبعدما توفي والدها تولت والدتها رعايتهم ومسؤولية تربيتهم، إلا أن مسؤولية الأم تضاعفت عندما تخلت زوجة أبيهم الثانية عن أطفالها "لقد تخلت زوجة أبي بعد وفاته عن أولادها، تاركة إياهم تحت رعاية والدتي التي تضاعفت مسؤولياتها ببقائهم تحت رعايتها". 
قرر عم مها محمد ضم أولاد أخيه إلى منزله وتولي رعايتهم، ورغم صغر سن أمها لم تتخلى عنهم لتعيش حياتها كغيرها بل قادها حنانها إلى أن تفني حياتها لأجل أولادها "أمي بقيت معنا ولم تتزوج رغم أنها كانت صغيرة في العمر".
 
تزوجت وهي فتاة قاصرة
بعدما كبرت مها محمد وأشقائها استطاعوا تحمل مسؤولية أنفسهم ورعاية والدتهم، وبذلك انفصلوا عن عائلة عمهم، ولأنها بدون تعليم أو مستقبل فكان الزواج هو مصيرها عند أول عريس يطرق بابها، "لم يسمح لي عمي بالتعليم وكذلك حرم اخوتي من التعليم"، وقرر عمها تزويجها من ابنه وهي ما زالت في السابعة عشرة من عمرها. قبلت بهذا الزواج لاعتقادها أنها ستبدأ حياة جديدة.
تؤثر العادات والتقاليد على الرجل كما تؤثر على المرأة وبزواج تقليدي ليس له أي أسس كان من الطبيعي أن يفشل، فبعد أن أنجبت مها محمد ثلاثة أولاد هجرها زوجها ليتزوج بامرأة ثانية، كان يأتي للمنزل في أوقات متقطعة، فمثلما حرمت هي من الأب كان نصيب أبناءها أن يروا والدهم في المناسبات فقط كما يقال "تزوج امرأة ثانية وبقي معها 15 عام دون أن ينجب منها أطفال فكان أن تزوج بامرأة ثالثة متناسياً أن لديه 9 فتيات و4 شباب من مها محمد زوجته الأولى وأن عليه تحمل مسؤوليتهم "كان قد تجاوز الخمسين عاماً ولديه زوجتان و13 ابن وابنة، لكن على الرغم من ذلك وجد من تقبل به".
"عاش أولادي ما عشته أنا وأخوتي بدون أب يتحمل مسؤوليتنا ورعايتنا ونشعر بحنانه، وقد أنجب زوجي من زوجته الثالثة خمسة أطفال".
 
"يا ليتني لو تعلمت حرفاً واحداً" 
المعوقات الاجتماعية كثيرة لسبب أو من دون سبب، بعد مرور كل تلك السنوات ما تزال مها محمد تتحسر على ضياع فرصة التعليم منها "أتمنى لو يعود بي الزمن لكي اتعلم... يا ليتني لو تعلمت حرفاً واحداً" إلا أن الندم لن يعيد ما ضاع منها خاصة وأنها لم تحارب من أجل ألا تواجه بناتها المصير ذاته "منعهن والدهن من التعليم رغم أنه لم يكن يهتم بنا لكنه تدخل في تعليم البنات"، "عاد الزمن وكرر نفسه مع بناتي اللواتي منعهن والدهن من إكمال تعليمهن بحجة أن المدرسة بعيدة عن قريتنا".
 
هجوم جبهة النصرة
كل تلك الممارسات أجبرت سكان القرية على الفرار وترك منازلهم وكل ما بنوه بكدهم وتعبهم خلال سنوات حياتهم، لجأت مها محمد وعائلتها إلى قرية شمو في سري كانيه/رأس العين، "لجأنا إلى قرية شمو بعدما رأينا الويلات والعذاب من قبل عناصر مرتزقة جبهة النصرة، ومكثنا هناك خمسة أيام، وبمساعدة أحد أهالي القرية استطعنا اللجوء إلى مدينة سري كانيه/رأس العين تاركين ورائنا كل ما بنيناه وأسسناه خلال سنوات مضت بتعب ومشقة، لنستقر في المدينة".
 
اليوم الأول من الهجوم التركي
مكثت مها محمد مع عائلتها في المدينة لعدة سنوات تحت وطأة التهديدات التركية باجتياح مناطق شمال وشرق سوريا لعدة مرات، وفي عصر التاسع من تشرين الأول/أكتوبر2019 انطلقت العملية العسكرية المسماة بـ "نبع السلام" والتي لم يلقى منها الشعب أي سلامٍ.
أجبر الهجوم التركي الآلاف من الأهالي إلى النزوح واللجوء إلى مناطق أكثر أمناً، ومع بدأ قصف طيران الاحتلال التركي على المدينة في يومه الأول نزحت مها محمد مع عائلتها وبعضاً من الأهالي قسراً من المدينة لينقذوا أرواحهم من قصف الطيران وبطش المرتزقة "خرجت مع عائلتي في أول يوم من القصف التركي على مدينتنا، خوفاً على حياة أولادي وبناتي من العناصر الإرهابية والمرتزقة".
توجهت مها محمد مع عائلتها إلى أقرب نقطة آمنة، فوصلوا مع حلول المساء إلى منطقة خالية مهجورة ما بين مدينتي تل تمر والحسكة، ليباتوا هناك تلك الليلة الطويلة آملين بأن يكونوا في أمان حتى شروق الشمس.
تركوا كل ما يملكونه، إلا أن أمنياتهم لم تتحقق ففي مساء اليوم التالي، عاد طيران الاحتلال التركي ليلقي بقذائفه حول المنطقة التي يمكثون فيها.
استجمعوا قواهم وتوجهوا إلى مدينة الحسكة في ساعات متأخرة من الليل في درب مجهول حائرين أين سيقيمون وليس لديهم أي مأوى أو أحد من أقربائهم في المدينة يأويهم في تلك الليلة "عندما خرجنا من المدينة تحت قصف الاحتلال التركي ووسط الخوف، توقفنا في منطقة خالية من السكان لنرتاح هناك بعض الوقت إلى أن تهدأ الأجواء، ونجد مكاناً يأوينا في اليوم التالي، وفي مساء اليوم التالي بدأ طيران الاحتلال التركي بقصف المنطقة من حولنا فاجبرنا على إكمال طريقنا سيراً حتى مدينة الحسكة".
"عندما وصلنا إلى مدينة الحسكة وقفنا إلى جانب المحلج على الطريق بعدما قررنا أن نبات هناك تلك الليلة، إلا إن إحدى السيارات رأتنا وأخذتنا إلى مدرسة عبد الله القادري التي آوت النازحين خلال الهجوم التركي، ومكثت مع بناتي وأولادي في غرفة واحدة".
وعلى الرغم مما قدمته وتقدمه الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا والعديد من المنظمات الإنسانية المحلية إلا أن الإمكانيات المتوفرة تكاد لا تكفي؛ فعدد النازحين الكبير إضافة لحلول فصل الشتاء زاد من التحديات.