الملعب الأسود... مكان واحد وقصتان

كدوره الأساسي كمكان للتدريب الرياضي للنساء والشباب، يجري الآن إعادة بناء الملعب الأسود، الذي كان يستخدم كسجن ومكان للتعذيب في فترة سيطرة داعش على مدينة الرقة بشمال وشرق سوريا.

بيريتان زنار

الرقة ـ الحرب مستمرة منذ 12 عاماً على أراضي شمال وشرق سوريا. وتستمر الحياة في ظل الحرب. والوقت يمر بسرعة. مثل كل شيء آخر، تتغير الأمكنة أيضاً. سادت القسوة والظلم تلك الأرض التي جُرحت مئات المرات ولا تزال آثارها واضحة، وأبرزها الملعب البلدي الذي يُسمى الآن "الملعب الأسود" في مدينة الرقة.

قبل سيطرة داعش على مدينة الرقة عام 2014، كانت النساء تعشن بين براثن النظام الأبوي لحزب البعث، ومن ثم تعرضن وعانين من أفظع الجرائم على يد داعش، وبعد تحرير المدينة في 17 تشرين الأول/أكتوبر عام 2017 على يد وحدات حماية المرأة ووحدات حماية الشعب وقوات سوريا الديمقراطية، نسجن حياتهن الجديدة على أساس الأمة الديمقراطية التي تستند على حرية المرأة. المدينة القديمة، تشهد بعمق على نهجين. أحدهما هو النظام الأبوي والآخر هو النظام الذي يعتمد على حرية المرأة أي النظام الديمقراطي.

لا يزال من الممكن رؤية آثار غزو داعش واحتلالها في شوارع الرقة. ومن بين المباني المدمرة يمكن رؤية حياة جديدة تنسج بأيدي النساء. وفي الرقة تصبح الآلام غير المنسية أساساً لبناء حياة جديدة ضد النظام الأبوي.

نجوى أبو ذر هي إحدى النساء اللواتي شهدن على سيطرة حزب البعث على السلطة وسيطرة داعش الرقة كذلك. إن واقع الهجرة والتهجير في جغرافية الشرق الأوسط مفروض وكأنه قدر. لقد عاينت حقيقة احتلال الدولة التركية عن قرب وتعيش الآن وتنسج حياة جديدة بعملها الجاد في نظام يعتمد على حرية المرأة. حيث تشغل منصب الرئيسة المشتركة للاتحاد الرياضي لمنطقة الرقة. في الملعب الأسود، المعروف أيضاً باسم أشهر سجون داعش، لها قصتان وتجربتان مختلفتان.

 

أول تدريب رياضي في الملعب الأسود

بدأت نجوى أبو ذر وهي من مدينة الرقة، تدريب الكاراتيه لأول مرة عام 1991 في الملعب البلدي في الرقة. كانت الشابة الوحيدة التي تتدرب على تلك الرياضة، فأرادت تشكيل فريق من النساء، وقامت بضم أخواتها وبنات أعمامها وخالاتها إلى التدريب وشكلت فريقاً صغيراً من النساء. واجهت ونافست نجوى أبو ذر الشباب بسبب عدم مشاركة الفتيات في المسابقات. وقالت إن نجاحها وانتصارها على الشباب جعلها تؤمن وتثق بنفسها أكثر. وبفضل لعبها وتعليمها الكاراتيه، وصلت إلى المستوى الثاني عشر وشاركت في مسابقات كبرى في دمشق وحمص وجميع أنحاء سوريا. ومع مرور الوقت، قامت ببناء فريق مستقل مكون بالكامل من النساء.

 

المرأة التي لم تستطيع التغلب على القيود العائلية

ونظراً للأنماط والقوالب الاجتماعية في النظام الأبوي، فقد تم تحديد أدوار المرأة؛ وشيء غريب بالتأكيد أن تشارك امرأة في رياضة الكاراتيه. ولذلك وضعت عائلة نجوى أبو ذر العراقيل أمامها. وتقول "كنت حزينة وغاضبة، فقد أردت أن أصبح متمرسة في الكاراتيه. والمشاركة في البطولات والسفر للخارج". لكنها اضطرت للتخلي عن رياضة الكاراتيه بسبب ضغوط والدها. وفي عام 1999، وعلى الرغم من محاولتها مواصلة الرياضة مرة أخرى، إلا أنها لم تتمكن من ذلك بسبب نفس المشكلة والعائق، وفي عام 2000، اضطرت للتخلي عن الرياضة.

تزوجت نجوى أبو ذر عام 2002، ثم انتقلت إلى قرية قريبة من عين عيسى. وأوضحت "كنت أرغب بشدة في ممارسة الرياضة، ولكن للأسف نحن نعيش في مجتمع لا يسمح للمرأة بممارسة الرياضة". ولفتت إلى حقيقة الأشكال والأنماط التي تفرضها عقلية الدولة الذكورية على المرأة. لكن القيود الاجتماعية لم يمنعها من الشغف بالرياضة والكاراتيه.

 

العودة إلى الملعب الأسود مرة أخرى

وكما هو الحال مع واقع التقاليد الاجتماعية، فإن النساء في هذه الجغرافيا عايشن واقع الاحتلال عن قرب، وهذه الحقيقة تنعكس في قصة جميع النساء في هذه المنطقة. منذ أربع سنوات، هاجمت الدولة التركية قرية نجوى أبو ذر التي تعيش فيها، واضطرت إلى النزوح مرة أخرى لتعود إلى المكان الذي ولدت فيه وتعلمت كل شيء فيه.

عندما جاءت نجوى أبو ذر إلى الرقة، قررت ممارسة الأنشطة الرياضية مرة أخرى، وتحدثت عن قصتها والملعب الأسود قائلة "بعد عودتي إلى مدينتي قررت العودة إلى ممارسة الرياضة. لقد كنت قوية في الكاراتيه. وأنا حاصلة على الحزام الأسود. عندما ذهبت إلى الملعب البلدي حيث كنت أتدرب صُدمت من هول المشهد. تم تدمير المدينة والملعب. وقفت في الملعب لمدة نصف ساعة. واسترجعت ذكرياتي. لقد كان ذلك الملعب ميدان الرياضة والرياضيين. كل المستلزمات كانت موجودة فيه. ولكن في ذلك الوقت تم تدمير كل شيء مع المدينة. لقد تأثرت كثيراً خاصة عندما رأيت أن ملعبنا تحول إلى سجن".

 

من مدربة إلى كونها رئيسة مشتركة

على الرغم من أن نجوى أبو ذر تشعر بالحزن أمام اللوحة التي شاهدتها، إلا أنها أخذت على عاتقها مسؤولية إعادة الملعب الأسود إلى سابق عهده. وأصبحت مدربة رياضة في الملعب الأسود، وقامت بتدريب ما يصل إلى 200 طالب. لقد عملت في التدريب لمدة 3 سنوات. وبذلت جهود كبيرة في هذا المجال وبعدها تولت الرئاسة المشتركة للاتحاد الرياضي في الرقة.

بعد أن أصبحت رئيسة مشتركة، انشغلت في تطوير الرياضات. الآن في التايكوندو والكاراتيه وكرة القدم وركوب الدراجات وما إلى ذلك، يتم تدريب النساء ويوجد فرق نسائية في جميع الألعاب الرياضية.

تقول نجوى أبو ذر، التي شهدت تغيرات وتطورات كثيرة مع مرور الوقت "إذا أجرى المرء مقارنة، فمن المؤكد أن هناك اختلافات كثيرة يجب ذكرها. في التسعينيات، كان المجتمع يخلق المشاكل. ولكن ليس إلى الحد الذي تم فيه رفض الرياضة بشدة. على العكس من ذلك، فقد أحب المجتمع ذلك وعبروا عن رغباتهم في العديد من المجالات. لكن أثناء سيطرة داعش تم تدمير الرياضة النسائية. وبعد تحرير الرقة على يد قوات سوريا الديمقراطية، أصبحت حياتي تتجه نحو التغيير والتحديث. الآن يمكن للمرأة أن تفعل ما تحب، الآن يمكن للمرأة أن تستمر في ممارسة الرياضة. والآن لدينا صالة ألعاب رياضية خاصة بالسيدات. وبفضل وعي المجتمع، ظل حب ممارسة الرياضة في قلبي، لذلك نحاول الآن تحطيم هذه القيود لتتمكن المرأة من أن تفعل ما تهتم به وتحبه".

 

إعادة إعمار الملعب الأسود

للملعب الأسود مكانة خاصة في حياة نجوى أبو ذر حيث تطفو الصراعات والنجاحات التي عاشتها والتغييرات التي طرقت على شخصيتها، وحول أهمية هذا الملعب في حياتها تقول "كانت غرف التدريب الخاصة بي في الكاراتيه والجودو وما إلى ذلك في قبو الملعب. لكن داعش حولت هذه الغرف إلى سجون وغرف تعذيب. لهذا الملعب مكانة خاصة في قلبي، لقد نشأت وتعلمت هنا، وتشكلت شخصيتي هنا وأدركت هويتي، وولد حبي هنا. يتم تجديد وإعادة إعمار الملعب منذ ما يقارب الخمس سنوات، لكنه لم يكتمل بعد بسبب الأضرار الجسيمة التي تعرض لها. أعتقد أنه كما تغيرت حياتي، سيعود ملعبنا أيضاً وسيكون أفضل من ذي قبل. صحيح أنه لم يعد بإمكاننا التدرب في هذه الغرف بعد الآن، ولكن بدلاً من ذلك قمنا بفتح العشرات من أماكن التدريب ونعمل على تطوير الرياضة النسائية. دخلت إلى الملعب البلدي عندما كان عمري 11 سنة، تعلمت وتدربت لسنوات حتى وصلت إلى مستوى تدريب الشباب بنفسي. لقد تخرجت من هذا الملعب واليوم أقوم بتدريب جيل جديد. أنا فخورة جداً بأنني أقوم اليوم بتدريب أطفال وشباب مدينتي على نفس الرياضة التي تعلمتها بشغف كبير. صحيح أنني الآن الرئيسة المشتركة للاتحاد الرياضي، لكن في أوقات فراغي أتابع رياضة الكاراتيه وأقوم بالتدريبات".

وفي ختام حديثها وجهت الرئيسة المشتركة لاتحاد الرياضي في الرقة نجوى أبو ذر رسالة للشابات مفادها "لا تدعن أنفسكن محكومات بالعقلية التقليدية للمجتمع. عندما نفتح أعيننا على الحياة، يضع المجتمع حدوداً لنا. ولكن يجب علينا أن نناضل وندرس ونتعلم ونتدرب. الرياضة حياة وعلينا أن نفعل ذلك بشخصيتنا وذهنيتنا وذواتنا لتحقيق هدفنا".