'المجتمع المدني ساهم في رفع معدل الوعي والتعليم يدعم التأقلم التكنولوجي بالصعيد'

مجموعة من العوامل قد تساعد في تخليص المجتمعات من أزماتها المتجذرة تعد في مقدمتها حركة المجتمع المدني والمؤسسات الخدمية وهو ما سنتعرف على حجم تأثيره في واحدة من محافظات صعيد مصر البعيدة عن قلب العاصمة "قنا".

أسماء فتحي

القاهرة ـ هناك تناقض لا يمكن إغفاله بين التكوين الاجتماعي والطموحات التي يرجوها كل شخص، وما أسوأ هذا الوضع إن كنا نتحدث عن نساء يبعدن عن قلب العاصمة ويقبعن على أطرافها خاصة كلما اتجهنا جنوباً، لنجد منهن من تعد مجرد الخروج للتعليم أكبر أمانيها وواحد من أهم الاختيارات التي لا تستطع نيلها بسهولة.

أثناء تواجدنا بمحافظة قنا التي كانت نموذجاً لنا في فحص طبيعة معاناة النساء هناك حاولنا التعرف على وضع المجتمع المدني والمؤسسات الخدمية، وما إن كان دورها أشبه بالمتوفر في قلب القاهرة، أم أن الأداء يختلف كثيراً، وحاولنا أيضاً من خلال بعض النساء النظر عن قرب لأداء أكبر قطاع مؤثر في ثقافة وتكوين الإنسان وهو "التعليم" خاصةً وإن كنا نتحدث عن القسم الحكومي منه في مراحله الأولى التأسيسية، والبدائل التي تم توفيرها في نجوع ومدن المحافظة المترامية أمام الفتيات البعيدات عن المنشآت الرسمية.    

وساعدتنا في تحديد تلك الرؤية مها محمد محسن، مدير إدارة الموهوبين والتعلم الذكي بمديرية التربية والتعليم بمحافظة قنا، وسيدة عبد السلام وهي الأم لثلاث فتيات لم تستطع أن تحصل على قسطاً من التعليم وكذلك بناتها.

 

من واقع التجربة: ليس كل ما نتمناه يمكننا تحقيقه

"كنت أحلم بذهابي للمدرسة وحياتي بعد الحصول على الشهادة واستيقظ على صراخ أمي لتنظيف المنزل بعد موعد طابور الصباح" حلم ظل يراود سيدة عبد السلام طوال حياتها، مؤكدة أنه لم يفارقها قط حضور طابور الصباح الذي يصل صوته إليها داخل منزلها كل يوم، ومنه يتغير مسار حياتها التي لم تختارها أو تحبها يوماً.

تقول سيدة عبد السلام "كنت أسمع طابور الصباح في حلمي وهو يحدث في الواقع، وأفضل دوماً أن أكمل النوم بعده لأتخيل حياتي إذا كنت في المدرسة وأحضره، فتصرخ أمي لتوقظني كي أحضر الإفطار لإخوتي الذكور وأنظف المنزل وأقوم بالدور الذي لم أحبه يوماً لأنه يجبرني على ترك حلمي والهرولة إليها، وظللت كذلك حتى تزوجت وأيضاً لم يفارقني الحلم فكل ما تغير فقط هو صوت المنادي إنها في هذه المرة والدة زوجي".

ولم تجرؤ سيدة عبد السلام أن تتحدث عن حلمها لأحد حتى بناتها وظلت محتفظة به في قلبها خوفاً من فراقه أيضاً كما هو الحال لصوت الطابور المدرسي الواقعي الذي غادرته بعد زواجها حيث أكدت على ذلك قائلةً "أحد أسباب حزني لتزويجي هو مغادرة بيت العائلة ومفارقة صوت المدرسة المجاورة وتحديداً طابور الصباح لأنتقل لمنزل بعيد عن أحب الأصوات إلى قلبي".

 

تغيير ملموس خلال السنوات الـ 10 الأخيرة  

رأت مها محمد محسن، مدير إدارة الموهوبين والتعلم الذكي في مديرية التربية والتعليم بمحافظة قنا، أن العشر سنوات الأخيرة شهدت تحول كبير تجاه المرأة بفضل أدوات المجتمع المدني وتأثيرها المباشر على الجمهور الذي لم تستطع الكثير من الوزارات والهيئات الحكومية فعله، معتبرةً أن الجمعيات الأهلية كان لا الدور الأبرز في ذلك.

وأوضحت أن الجمعيات الأهلية عملت في مختلف المجالات وخاصة الاقتصادي منها من خلال تعزيز وتطوير وتنمية المشروعات متناهية الصغر، وتلاها الأحزاب التي سعت لإيجاد أرضية لها في العمل العام وإن كانت بدرجة أقل من الجمعيات خاصة تلك الكبيرة منها.

وأشارت إلى أنه لا يمكن إغفال دور المجلس القومي للأمومة والطفولة وإن كان بحاجة لعمل أكثر وعدد أكبر كي يزيد من حجم تأثيره بالدرجة التي تلبي احتياجات النساء خاصة المعيلات والمحرومات من التعليم والمهمشات في القرى النائية، معتبرةً أن للمؤسسات الخدمية الحكومية كبير الأثر خاصةً المرتبط منها بالتعليم ومنها جامعة جنوب الوادي والتربية والتعليم، بما يسعون لتقديمه من أعمال مساندة كالقوافل الطبية والدعم المجتمعي من خلال محو الأمية، وإتاحة التدريبات المرتبطة بتطوير المهارات والمشروعات وغيرها من الأمور.

 

للتعليم في الصغر تأثير مباشر على الثقافة وخاصة تجاه النساء

"رأيت كيف يغير العلم أحوال المحيطين بي وتمنيت لو كنت واحدة منهم"، فسيدة عبد السلام المرأة الأربعينية ترى أن للتعليم دور أساسي في تغيير المستقبل لذا فداخل حلمها الدائم الذي كان يبدأ بطابور الصباح تروي لنا تفاصيل ما بعد ذلك قائلةً "انتقلت سريعاً بين المراحل التعليمية المختلفة لأني متفوقة وتمكنت من الوصول للجامعة، لم أكن أرغب بالزواج حتى انجذبت لأحد الزملاء في كلية الحقوق التي لم أحلم بدخول غيرها وتزوجنا وأنجبنا أطفالاً أصحاء وعشنا نتحدث ونتناقش في أفكارنا كما كنت أرى على شاشات التلفزيون".

بينما تعتبر مها محمد محسن، مدير إدارة الموهوبين والتعلم الذكي في مديرية التربية والتعليم بمحافظة قنا، أن للتعليم تأثير مباشر على تعديل مسار الثقافة في النفوس والمتوارثة لمئات السنوات عبر الأجيال المختلفة، لافتةً إلى أن عدد ليس بالقليل من الفتيات بات قادر على التعلم والوصول للجامعة بلا عناء عكس ما كان يحدث في القدم، معتبرةً أن الوقت الحالي هو انطلاقة حقيقية وبداية تغيير ملموس واضح جلياً في تعداد النساء المتعلمات.

وسردت من واقع عملها في مديرية التربية والتعليم باعتبارها مديرة إدارة التعلم الذكي تجاربها "شاركت في برنامج مدارس التعليم المجتمعي، وهي موجودة في قلب الريف في النجوع والكهوف والجبال وفي المناطق البعيدة التي لا يصل لها أي أحد وبها فصول للدراسة، وتمكنت من مساعدة الكثيرون في تحصيل العلم، وتكاد تكون أفضل من المدارس التقليدية فبها تدريب وتطوير للمهارات، ومساعدة على تنفيذ أعمال ومشروعات وغيرها من الأمور المبهجة والمؤثرة".

وأضافت "كنت في زيارة بأحد الفصول وموقع المدرسة في أطراف المدينة يصعب الوصول إليه، لكني وجدت الفصل وكأنه حديقة مزينة بمشاريع الطلبة، وأعمالهم الفنية، كما أن كل فصل به جهاز تابلت وشاشة تفاعلية، وإمكانيات كبيرة فلم يعد هناك إحساس بالبعد عن التقدم والتكنولوجيا كما كان في السابق".

 

بدائل حقيقية وتأثير مباشر

وتبين مها محمد محسن أن أدوات التعليم خاصة في المراحل الأولى تغيرت كثيراً عن ذي قبل، وبات لها تأثير مباشر على الأهالي، مؤكدة أنه تم بالفعل إيجاد بدائل أمام القاطنين في القرى البعيدة من خلال مدارس التعليم المجتمعي، لتصل بالعلم حتى أبواب منازلهم، في محاولة لمنع أي تسرب ممكن، بل واستيعاب من اضطر منهم لذلك، حتى لا يتم تفويت الفرصة عليه.

وأكدت أن التعلم الذكي يحتاج لقبول واستيعاب القائمين عليه، فالمدرسين أنفسهم يجب أن يتم تأهيلهم وتدريبهم حتى يقبلوا الأدوات الجديدة ومن ثم يتيحونها للطلاب، ولا يحرمونهم من الممارسة التكنولوجية كلما رغبوا في ذلك، "من موقعي في التربية والتعليم أطالب كل معلم بفتح الباب لتلاميذه للتجريب والممارسة والتعاطي مع التكنولوجيا التي هي لغة المستقبل"، مؤكدة أن إدارة الموهوبين في مديرية التربية والتعليم بها جزء للتعلم الذكي وتقدم ورش للطلاب المهتمين بالتكنولوجيا من أقصى الشمال في أبو تشت حتى أقصى الجنوب في قوص".

أما سيدة عبد السلام التي أنجبت ثلاثة فتيات والدهن وعائلته لم يرغبوا في تعليمهن تقول "بعد عناء شديد تمكنت هذا العام من إقناع زوجي أن تذهب ابنتي الكبرى لفصل تعليمي تم إنشاؤه في الجوار وأغلب من به فتيات وأقنعته أنها ستتعلم من خلاله الخياطة كي تدعمها في المستقبل كما أنها ستصنع المربى وغيرها من الأشياء الهامة للفتيات، وكنت أكذب عليه فلم يكن هذا هدفي بقدر حلمي بأن يتغير مصير أطفالي ولا يعيشون كما أحيا ليقبلوا واقعهم بدلاً من مسايرته حتى يمر العمر".