عودة النساء إلى التعليم... مقاومة صامتة ضد القمع الأبوي في إيران
لا تُعد عودة النساء غير المتعلمات إلى التعليم في المجتمعات التي تعيد إنتاج عدم المساواة بين الجنسين، خطوة فردية بل شكلاً من المقاومة الصامتة في إيران، حيث يتحول التعليم من مهارة تقنية إلى أداة للتحرر وإعادة تعريف مكانة المرأة.
شيلان سقزي
مركز الأخبار ـ في المجتمعات التي تُعيد فيها البنى الأبوية والاستبدادية إنتاج اللامساواة بين الجنسين بشكل منهجي، يصبح محو الأمية أكثر من مجرد مهارة تقنية، بل أداة أساسية للمقاومة والتحرر، كما أن حرمان النساء من التعليم لا يقتصر على انتهاك حقوقهن الأساسية، بل يضعهن كذلك في مواجهة مستمرة مع القهر الاجتماعي والاقتصادي.
يُعدّ دخول المرأة إلى المجال التعليمي حتى وإن كان محدوداً وغير رسمي شكلاً من أشكال الاحتجاج الصامت وإحياءً لجسدها وعقولها والذي من خلال إعادة تعريف مكانتها في الأسرة والمجتمع، يفتح آفاقاً جديدة لتمكينها وتخفيف معاناتها، ومع ذلك لا تزال الضغوط الهيكلية والأيديولوجية تحول دون تحقيق هذه القدرات بالكامل، ويعكس هذا الصراع التناقض العميق بين تطلعات المرأة الفردية والبنى الاجتماعية والسياسية القمعية.
يتناول هذا التقرير دور التعليم ومحو الأمية في تمكين النساء الأميات، والآثار الذاتية والموضوعية لعودتهن إلى التعلم، كما يتناول التحديات والقيود الهيكلية والأيديولوجية التي تواجهها النساء في رحلتهن نحو التعليم، وكيف يمكن تحويل محو الأمية إلى أداة للمقاومة وإعادة تعريف مكانتهن الاجتماعية والفردية.
الدراسة ضد النظام المفروض
في البنية الاجتماعية والسياسية لإيران، يُعدّ محو الأمية امتيازاً طبقياً وجنسانياً، وليس حقاً متساوياً، الطفل المحروم من التعليم والأم التي لا تزال أمية في نظام أبوي فقير ومركزي هما في حد ذاتهما ضحايا سياسات تراكمية تُنتج عمداً عدم المساواة.
عندما تقرر امرأة، أمٌّ غير متعلمة، تعلم القراءة، فهذا القرار ليس مجرد فعل فردي، بل هو حركة مقاومة ضد نظامٍ جعل استبعاد النساء المهمشات من التعليم يبدو أمراً طبيعياً، في مجتمعٍ تتدفق فيه ميزانيات التعليم إلى المناطق المركزية ويصبح فيه التعليم الرسمي أداةً أيديولوجيةً للسلطة، تُحرّر المرأة المهمشة المتعلمة، من خلال التعلم، جسدها وعقلها عملياً من النظام الهرمي والإقصائي.
لا يقتصر محو الأمية على تعلم القراءة والكتابة، بل يتجاوز ذلك ليصبح فعلاً سياسياً يفتح الطريق لكسر دائرة الإقصاء والمطالبة بالحضور، ومن هذا المنظور يعد محو الأمية أداة جوهرية للمهمشين، ليس مجرد سردية مثيرة، بل فعل تحرر سياسي يعيد للمرأة مكانتها وحقها في المشاركة.
العودة إلى الفصل الدراسي
وفي نظام يعيد إنتاج عدم المساواة بين الجنسين على جميع المستويات، فإن عودة النساء الأميات إلى التعليم يشكل عملاً سياسياً عميقاً، حتى وإن بدا بسيطاً وشخصياً على السطح. لقد عملت الهياكل الحكومية والأبوية في إيران، وخاصة في المناطق المهمشة على الحد من وصول المرأة إلى التعليم، وذلك من خلال الفقر المنهجي والتمييز بين الجنسين، وإعطاء الأولوية لتعليم الأبناء، والثقافات التي تحدد المرأة فقط في أدوارها كأم وزوجة.
عودة النساء إلى مقاعد الدراسة بعد سنوات من الأمية لا تقتصر على اكتساب المعرفة، بل تمثل أيضاً تحدياً مباشراً لشرعية النظام المهيمن، هذه العودة تتم بهدوء عبر القلم والورقة، لتتحول الكلمات إلى أداة مقاومة تدريجية وجوهرية، مقاومة ضد محاولات المحو التاريخي والقمع الرمزي، وضد تهميش أجساد النساء الصامتات اللواتي جرى تجاهلهن طويلاً.
في هذه الروايات، لا يُعدّ محو الأمية مجرد أداة للتوعية، بل هو استعادة للكرامة الإنسانية وإعادة تعريف للذاتية السياسية للنساء اللواتي عُرِّفن سابقاً كأشياء للعائلة والتقاليد، التعليم لهؤلاء النساء هو مدخل المشاركة في التاريخ، وهو تاريخٌ لطالما حُرمن منه، هذه العودة إلى الفصول الدراسية تُمثّل إعادة صياغة صامتة، وإن كانت جذرية، لبناء السلطة.
إحياء المرأة المهمشة
في الأنظمة التي تُخضع جسد المرأة وعقلها، لا تُعتبر الأمية مجرد نقص في التعليم، بل وسيلةً لترسيخ نظام الهيمنة، استبعاد المرأة من عملية التعلم هو استبعاد لها من اللغة والذاكرة والمشاركة الاجتماعية والسياسية.
مع تراجع حركات محو الأمية الرسمية وغير الفعّالة، تُنشئ النساء غير المتعلمات، وخاصةً في المناطق النائية، مسارات جديدة للتعلم، دروس منزلية عفوية، وتدريس في المساجد، وتعلم في فضاءات إلكترونية بمساعدة الأطفال أو الشبكات النسائية، تُمثّل هذه الأشكال غير الرسمية شكلاً من أشكال المقاومة من القاعدة، مُشكّلاً في مواجهة تقاعس البنى التعليمية الرسمية، محو الأمية هنا ليس مجرد مهارة تقنية بل هو إحياء ذهني ينقل النساء من السلبية إلى النشاط، تبدأن بقراءة فواتير الكهرباء وكتابة رسائل احتجاج وقراءة الأخبار، وفهم حقوقهن، وإعادة بناء صورتهن في الأسرة والمجتمع، في الوقت نفسه يُعاد تعريف أجسادهن، فلم تعد مجرد أدوات إنتاج ورعاية، بل كائنات تعرف وتتساءل وتكتب.
إن هذه العملية التعليمية تكسر حاجز الصمت التاريخي، وتنقل أجساد النساء وعقولهن من الهامش إلى قلب المقاومة، هنا يصبح محو الأمية نقطة انطلاق للتغيير، ليس في إطار سياسات الدولة الرمزية، بل في سياق إبداع المرأة وإرادتها التحررية.
من الخضوع الهيكلي إلى تمكين المرأة
في الهياكل السياسية والاقتصادية التي تُعيد إنتاج عدم المساواة بين الجنسين بوعي، لا يُعدّ محو الأمية مجرد مهارة بل أداة مقاومة، تجد المرأة غير المتعلمة نفسها في وضع لا يسمح لها بمعرفة حقوقها أو كتابة احتجاجها، أو حتى تسجيل روايتها، هذا العجز اللغوي هو أحد الأركان الخفية للهيمنة الأبوية المتمركزة حول الدولة.
دخول المرأة إلى التعليم، حتى عبر مسارات غير رسمية أو بجهود ذاتية، ينعكس بتأثيرات واسعة ومتعددة المستويات، فعلى الصعيد الفردي يتيح محو الأمية للمرأة تقليص اعتمادها الاقتصادي والنفسي على الآخرين، ويمنحها القدرة على بناء مسار وظيفي محدود لكنه مستقل، كما يمكنها من أداء مهام حياتية أساسية مثل قراءة وصفة دواء لطفلها أو التقدّم بشكوى رسمية ضد العنف الأسري، ما يجعل التعليم أداة عملية لتحسين ظروفها اليومية وتعزيز حضورها الاجتماعي.
في المجال الأسري، غالباً ما تُصبح النساء المتعلمات قدواتٍ تعليميةً لأطفالهن، ويزداد انخراطهن في صنع القرارات الأسرية، يُشكّل محو الأمية تحدياً للهيمنة الذكورية الأحادية الجانب في الأسرة، ثالثًا في المجال الاجتماعي يُخرج محو الأمية النساء من وضعهن كـ "غير مرئيات" يُمكنهن الانضمام إلى المنظمات، وملء الاستمارات ونشر رواياتهن، والانخراط في العمل السياسي، أخيراً في مجال الصحة النفسية فإنّ تقليل الشعور بالخجل، وتعزيز تقدير الذات، وإعادة بناء صورة ذهنية لأنفسهن كـ"أفراد مُمكَّنين" جميعها لها آثار موضوعية على تخفيف معاناة المرأة.
ومع ذلك لا تزال البُنى الحاكمة تسعى إلى تحييد أداة المقاومة هذه من خلال التلقين الأيديولوجي، وفرض الرقابة على المحتوى، وحصر المعرفة في أطر محددة، ولكن وكما أثبت التاريخ فإن المعرفة المُجردة من الهيمنة يمكن أن تكون بذرة الوعي والتحول.
لذا فإن عودة النساء غير المتعلمات إلى العملية التعليمية ليست مجرد عمل فردي، بل هي نوع من المقاومة الصامتة ضد البنى غير المتكافئة والتمييزية، لا يقتصر محو الأمية على تمكين المرأة فكرياً وزيادة وعيها السياسي والاجتماعي فحسب، بل يتيح لها أيضاً فرصة إعادة تعريف هويتها واستعادة حقوقها المنتهكة، إلا أن قيود نظام التعليم الرسمي وعدم استقرار السياسات جعلت هذه العملية بطيئة وهشة، لذلك فبدون إصلاحات هيكلية ودعم حقيقي، سيظل محو أمية المرأة ناقصاً كأداة لتخفيف المعاناة وتحقيق العدالة الاجتماعية.