امرأة تفك عُقد النزاعات القبلية: أُصغي إلى حزن الأمهات وأوثق الصلح بختم القانون

في مجتمع يُهيمن عليه الطابع الذكوري وتحكمه الأعراف القبلية، من النادر أن نرى امرأة تتصدر مشهد فض النزاعات وتشارك الصلح، خاصة عندما يتعلق الأمر بقضايا القتل والدم.

ابتسام اغفير

بنغازي ـ في ليبيا، حيث تحكم الأعراف القبلية تفاصيل الحياة والموت، وتُحسم الخلافات في المجالس لا في المحاكم، برزت امرأة غير مألوفة في هذا السياق، دخلت ميداناً ظلّ لعقود حكراً على الرجال إنه ميدان فضّ النزاعات القبلية.

لم يكن التخصص في القانون مجرد مهنة للمستشارة القانونية أمينة الحسين بن سليم، بل كانت بوابتها للتأثير في ملفات شائكة كقضايا القتل، والدية، والطلاق، والنفقة.

وبذكاء العارفين وخبرة المستشارين، جمعت بين قوة القانون ودفء العاطفة، لتدخل مجالس الصلح بصفتها امرأة قادرة على احتواء الألم وكتابة محاضر السلام، في هذا اللقاء، تتحدث أمينة الحسين بن سليم عن موقعها في مجلس أعيان ومشايخ مدينة بنغازي وضواحيها، وتأثيرها في حسم بعض الخلافات القبلية الشائكة.

 

مكانة المرأة بدأت تتغير تدريجياً

تقول أمينة الحسين بن سليم، إنها تعمل كمستشارة قانونية في مجلس أعيان ومشايخ بنغازي وضواحيها، ومن خلال هذا الدور، قامت بإضفاء الصبغة القانونية على محاضر الاجتماعات، بما فيها تلك الخاصة بفض النزاعات بين القبائل، خاصة في حالات القتل والدية، مؤكدة أنها قطعت شوطاً كبيراً في هذا المجال بالتعاون مع المشايخ والأعيان.

وتعترف بأن البيئة ما زالت ذكورية بطبعها، وأن العرف الاجتماعي لا يزال يتحكم في الكثير من التفاصيل، إلا أن مكانة المرأة بدأت تتغير تدريجياً، خاصة حين تثبت كفاءتها، وتجد لنفسها مدخلاً خاصاً في هذه القضايا من خلال التحدث مباشرة مع أمّهات المجني عليهم، اللواتي يرفضن في كثير من الأحيان فكرة الصلح أو التنازل.

وأوضحت أن قضايا القتل العمد تختلف تماماً، إذ يكون الألم أشد، وغالباً ما ترفض الأمهات والزوجات التنازل، وهو أمر تتفهمه جيداً، ومع ذلك لا تفقد الأمل في محاولة التهدئة وطرح بدائل تحفظ كرامة الجميع.

بصفتها قانونية استطاعت أمينة الحسين بن سليم أن توثق محاضر الصلح وتمنحها قوة قانونية بعد ختمها بأختام المجلس، إذ لكل شيخ ختمه الخاص، وتُعتمد هذه الوثائق حتى أمام القضاء، مشيرةً إلى أن هذا التوثيق يغني في كثير من الحالات عن اللجوء إلى محرر العقود أو الإجراءات القضائية الطويلة، خاصة وأنها تتضمن كل تفاصيل الجلسة من تقديم الدية، إلى أسماء الحاضرين، إلى التنازل الرسمي.

وترى أن العرف لا يزال مؤثراً بقوة، وأنه يمكن أن يكون بديلاً ناجحاً ومقبولاً لحل النزاعات، خاصة في مجتمع قبلي كالمجتمع الليبي، حيث تكون الروابط الاجتماعية أقوى من القوانين المكتوبة، من هذا المنطلق، تشعر أن عملها كمستشارة قانونية لا يقتصر على النصوص، بل يتكامل مع السياق العرفي، وهذا ما يمنح عملها مصداقية مضاعفة.

وتتحدث بفخر عن مكانتها داخل المجلس، رغم قلة عدد النساء، مشيرة إلى أنها أصبحت طرفاً مهماً في كل نقاش يُطرح، ويتم الرجوع إليها في كل قضية تقريباً، حتى تلك التي تتعلق بالحق العام، وتضرب مثالاً على ذلك "في حالات القتل العمد، حتى لو حصلنا على تنازل من أهل المجني عليه، فلن يُطلق سراح الجاني، لكننا ندرس الملف من جميع الزوايا القانونية والعرفية ونسعى لفض النزاع ويأخذ الحق العام مجراه".

 

نماذج ناجحة وملهمة

وأوضحت أن النساء تواجهن صعوبات في هذا المجال بسبب النظرة الاجتماعية، لكن في مدن مثل بنغازي، الوضع أكثر انفتاحاً والدعم المجتمعي يساعد النساء على الدخول في مثل هذه الملفات، وتذكر أن ذلك لا يمنع من وجود نماذج ناجحة وملهمة خارج المدن، فهناك نموذجاً ملهماً لامرأة من الجنوب وهي سومة التارقي، التي نجحت في عقد صلح بين قبيلتي الطوارق والتبو، وهو مثال حي على دور النساء في بناء السلام.

لا تقتصر مساهمات أمينة الحسين بن سليم على قضايا القتل، بل تتوسع لتشمل مشاكل الطلاق والنفقة، تقول "هناك نساء يصدر لهن حكم قضائي بالحصول على النفقة، ولكن بسبب ضعف التنفيذ هنا تلجأ المرأة إلينا، فنخاطب قبيلة الزوج للضغط عليه اجتماعياً، وأحياناً يكون هذا الضغط أنجع من أي إجراء قانوني".

ولفتت إلى أن أحد أسباب نجاحها هو أنها قريبة من النساء أكثر من الرجال في هذا السياق "الرجل لا يستطيع دخول بيت امرأة ليطلب منها التنازل، أما أنا، فبحكم أنني امرأة، أدخل وأتحدث معها دون حواجز، أسمع قصتها وتسمع مني حديثاً يلامس روحها".

وفي ختام حديثها، وجهت أمينة الحسين بن سليم نصيحة للنساء الراغبات في دخول هذا المجال "من الضروري أن يكون لديهن خلفية قانونية، فهذا يمنحهن مصداقية ويُسهّل عليهن كتابة المحاضر وتوثيق الاتفاقات، أما من لا تمتلك هذه الخلفية، فيمكنها العمل في الجانب التوعوي، خاصة إذا كانت من خلفية إعلامية".

بالنسبة لها، كانت التجربة ثرية، وتصفها بالناجحة في محيطها الاجتماعي رغم كل التحديات، ومع أن المجتمع ما زال محافظاً وذكورياً في بعض تفاصيله، إلا أن المرأة الليبية كانت ولا تزال قادرة على أن تحاذي الرجال، وأن تكون صوتاً للعقل والعاطفة معاً في مجال دقيق كفضّ النزاعات القبلية.