فن وخصوصية حياكة الجوارب الصوفية

أحيت قمري تونج إحدى نساء بوطان شمال كردستان ثقافتها التقليدية بحياكة الجوارب الصوفية "نحن النساء لا يمكننا العيش دون ثقافتنا، لذا نعد احتياجاتنا بأيدينا ونصنعها من الصوف فهي مفيدة للصحة"

الموصل ـ .
يرتدي سكان كل منطقة لباساً مناسباً لظروف الطقس الجغرافية. ففي مناطق السهول مثل هولير في إقليم كردستان ورها في شمال كردستان ومنطقة الجزيرة في روجآفي كردستان وبسبب حرارة الجو تكون الأوشحة التي يغطي بها الناس رؤوسهم بيضاء أو ذات ألوان فاتحة، معظمهم ومع ارتفاع درجة حرارة الجو يقللون ويخففون من الملابس التي يرتدونها ويتركون أقدامهم حافية. كما أن أغذيتهم وطعامهم المحلي معظمه من محاصيل القمح والحبوب. ويصنعون العديد من لوازم واحتياجات العيش من قش القمح. تختلف ثقافة ونمط حياة سكان المناطق الجبلية من حيث اعتمادهم على تربية المواشي والرعي والهجرة (حياة الكوجر). وسكان منطقة بوطان في شمال كردستان أيضاً يرتدون الملابس التي تلائم طقس الجبال والغابات، وبرودة جبال زاغروس. من الوشاح الأبيض والأسود الذي يسمونه بلغتهم (جمداني) أي الذي يحميهم من البرد إلى الجوارب وأحذية أقدامهم جميعها تتناسب مع الظروف الجوية والطقس في منطقتهم. على الرغم من تأثير السوق الذي يحتوي على كل الأشياء المصنوعة ميكانيكاً عليهم، وانخفاض المنتوجات التي كانوا يصنعونها بأنفسهم بسبب بحثهم عن الراحة إلا أن النساء المجدات مثل قمري تونج يواصلن عملهن، بدءاً من صناعة الجوارب الصوفية وانتهاءً بالعديد من مستلزمات الحياة والعيش التي يصنعونها جميعها يدوياً. 
قمري تونج من قرية هلال بمنطقة قلابان التابعة لمدينة شرناخ في شمال كردستان، تعلمت من جدتها ووالدتها كيفية حياكة الصوف وغزل النسيج. تزوجت شاباَ من قرية مجون المجاورة لقريتهم وهناك واصلت أعمالها اليدوية نفسها. فنساء تلك القرية أيضاً مثل نساء قريتها كن يعملن في نفس الأعمال، لذلك لم تشعر بالغربة وانخرطت فوراً في حياتهم. قمري تونج التي فرت من موطنها عام 1994 بسبب ضغوطات الدولة التركية، أخذت أطفالها وانضمت لقافلة المهاجرين من بوطان إلى مخمور. تعيش حالياً في مخيم مخمور للاجئين الموصل. بالإضافة إلى أطفالها أحضرت معها أدواتها وآلاتها اليدوية مثل المغزل والنول وغيرها من الأدوات إلى المخيم الذي استمرت فيه بالقيام بنفس الأعمال. من الحقائب والسلال المطرزة إلى أحزمة الخصر، سترات الرعيان، مفارش الأسرة والجوارب المزركشة وتقريباً كل مستلزمات الحياة التي تُصنع وتحاك من الصوف تعرف قمري تونج كيفية صناعتها وما زالت تقوم بإنتاجها. من بين جميع المنتوجات اليدوية لقمري تونج ومثيلاتها من النساء اللواتي يحيين ثقافتهن المحلية ويرتقين بها بإصرار وعناد، سنتناول موضوع الجوارب الصوفية ونناقش قمري تونج ونسألها عن كيفية صنعها وعن فوائدها الصحية.
 
"غالباً صوف الجوارب يكون أبيضاً خالصاً"
تحدثت قمري تونج عن مراحل تجهيز صوف المواشي إلى أن يصبح جوارب صوفية "تمر عملية صنع جوارب الصوف بأربع إلى خمس مراحل. في البداية نجلب صوف مواشينا ونغسله جيداً، بعد أن يجف نمشطه جيداً بمشط الصوف. أثناء التمشيط نأخذ الصوف الجيد الذي يعلو أسنان المشط من أجل الجوارب، أما ما يتبقى بين الأسنان نسميه ما تحت المشط نستخدمه من أجل الجوارب الملونة السميكة قليلاً. نغزل الصوف الجيد الذي علا المشط على المغزل اليدوي، وهنا تبدأ مرحلة الغزل واللف. في السابق كنا نقف على حافة أسطح المنازل ونقوم بإنزال مغزلنا حتى يصل الأرض. كانت المنافسة تشتد بيننا نحن النساء فنتسابق لنرى من منا تستطيع الانتهاء من الغزل أولاً لتكون أفضل نسّاجة. في بعض الأحيان كانت ساقنا التي ندحرج عليها المغزل تتأذى وتتألم بسبب إسراعنا في العمل، لذلك كنا نصنع من جلد المواشي قطعة مناسبة لساقنا ونضعها عليها كي لا تتأذى. بعد هذه المرحلة تنتهي مهمة المغزل، وهذه المرة نبدأ بصبغ وتلوين خيوطنا الصوفية بمواد طبيعية. ولأن الجوارب الصوفية تبدو أكثر جمالاً إذا كان لونها أبيضاً خالصاً لذلك ما عدا الرأس يكون لونها أبيض وعليها بعض النقوش. ولكن بالنسبة للأشياء الأخرى مثل الحقائب والسلال بالتأكيد نقوم بصبغ وتلوين الصوف. في السابق كانت هناك نساء في القرية تضعن القدر على الموقد ويلون صوف نساء القرية جميعاً. بعد أن نحول صوفنا إلى خيوط ونجمعها في كرات صغيرة تصبح جاهزاً للحياكة، نحضر خمس أسياخ (سنانير) ونبدأ بالعمل".
 
"كثيراً ما كنا نصنع الجوارب في طريقنا إلى المراعي"
استذكرت قمري تونج طريق الذهاب الطويل إلى المراعي الذي كان يستغرق الوصول إليه أحياناً نصف نهار سيراً على الأقدام، والصحبة الجميلة وصناعة الجوارب الصوفية أثناء ذلك قائلة "كانت قرانا أكثر اهتماماً بالرعي وتربية المواشي من الزراعة. كانت حياتنا أيضاً قائمة على الذهاب إلى المراعي لحلب الأغنام والمواشي وإعداد احتياجات حياتنا من منتجاتها. في كل يوم كنا نخرج نحن نساء القرية اللواتي كانت مواشينا ضمن نفس القطيع من القرية لنصل في الظهيرة إلى المراعي. كانت رحلة جميلة ورائعة. بالإضافة إلى التسلية والمزاح كنا نقوم بحياكة الجوارب إلى أن نصل إلى المراعي. في الليل نغزل ونجهز خيوط الصوف بالمغزل على ضوء نار الحطب وفي الصباح الباكر ننضم للقافلة ونبدأ بحياكة الجوارب ونحن في الطريق. ولأن الطريق كان طويلاً كنا ننهي حياكة زوج من الجوارب كل بضعة أيام. لقد تعودنا على صنعها ولم نعد ننظر إلى أيدينا أثناء الحياكة، فأصابعنا تعرف أماكنها وكنا نصنعها دون النظر إليها. كنا نخرج من القرية صباحاً إلى أن نصل مراعي Kêla Memê ونعود في المساء. في أشهر الصيف كنا نخيم هناك وفي الخريف نعود إلى القرية. كان الرعي يبدأ من بداية فصل الربيع وحتى نهاية فصل الخريف، وفي جميع تلك الرحلات كان العمل اليدوي الأكثر راحة هو حياكة الجوارب فقد كان عملنا الدائم. أنا الآن أشتاق كثيراً لتلك الأيام وأفتقد تلك الطرقات. هناك فرق كبير بين الحياة الآن والحياة في القرية. في القرية لم يعاني أحد من المشاكل الصحية. لأن الحياة هناك كانت صحية جداً وكل الأشياء طبيعية وتصنع يدوياً. وفي حال ظهور مشكلة من الناحية الصحية كانت تعالج بالمواد والعلاجات الطبيعية".
 
"الجوارب الصوفية أكثر نعومة وأفضل من غيرها"
في حديثها لفتت قمري تونج الانتباه إلى الفرق بين الجوارب الصوفية وغيرها من الأنواع الأخرى وقالت "في القرية لم يكن هناك أي شراء للبضائع الجاهزة، كنا نصنع ما نحتاجه من الصوف. تلك الأشياء المصنوعة من الصوف كانت جيدة جداً ومفيدة لصحة الإنسان. ولكن الآن كل شيء أصبح سهلاً وأكثر راحة ويتم شراء المواد الجاهزة. فالأشياء التي تصنع يدوياً ليست من الصوف، بل يشترون الخيوط الصناعية الجاهزة ولم يعد العمل اليدوي صعباً وشاقاً. عندما أتينا إلى مخمور في إقليم كردستان كان هناك جوارب صوفية، ولكن حياكة الصوف قلت كثيراً منذ ما يقارب ثماني سنوات. لم يعد الناس يرغبون في الشقاء أو تحمل الصعوبات. لكن الجوارب الصوفية أكثر دفئاً وسمكاً وأفضل من المصنوعة من الخيوط الأخرى. فتلك الخيوط ليست جيدة. ولكن الجميع الآن يرتدون الجوارب المصنوعة منها، لذا ينصحهم الأطباء بلبس الجوارب الصوفية في أقدامهم عندما يمرضون ويشعرون بالألم لأنها مفيدة جداً للصحة وتخفف جميع آلام الجسم".
في نهاية حديثها دعت قمري تونج إلى حماية الثقافة الكردية والحفاظ عليها وقالت "أدعو الأمهات والنساء الشابات إلى الحفاظ على ثقافتنا والاهتمام بها بصفتنا أفراداً من هذا المجتمع. كما يجب علينا أن نكون دائماً حماة جيدين من أجل منع اختفاء ثقافتنا الممتدة منذ مئات السنين وأن نرى مهمة إحيائها واجباً علينا".