لم يُسجلها التَّاريخ... مجزرة لا تزال محفورة في زوايا برخ بوطان

صرخات نساء وأطفال قرية برخ بوطان في كوباني بشمال وشرق سوريا، شقت عنان السَّماء، وجثامين الضحايا التي انهمرت منها الدَّماء روت الأرض، وأجنة لم يكتمل نموهم أخرجوا من بطون أمهاتهم، صورٌ ومشاهدُ تصف مجزرة لم يسجلها التَّاريخ ارتكبها داعش في تلك القرية

دلال رمضان
كوباني ـ .
في الـ 25 من حزيران/يونيو 2015، هاجم مرتزقة داعش قرية برخ بوطان الواقعة جنوب مدينة كوباني والتي تبعد 27 كم عنها، بثماني مجموعات ضمت حوالي 100 مُرتزق متنكرين بالزَّي العسكري لقوات حماية الشَّعب، مما أسفر عن مقتل 27 شخص، منهم 14 امرأة و5 أطفال.
وفي نفس الوقت من الجَّهة الأخرى لشمال مدينة كوباني على الحدود التَّركية، هاجم المرتزقة المدينة بنفس الطَّريقة، وارتكبوا فيها مجزرة أخرى راح ضحيتها 134 شخصاً منهم 10 نساء، ثلاث منهنَّ حوامل، و35 طفلاً، 28 منهم من قرية برخ بوطان، هذه المجزرة جاءت بعد المقاومة التي أبداها مقاتلي ومقاتلات وحدات حماية الشعب والمرأة في 26 كانون الثاني/يناير 2015. 
وعقب ثلاث أيام من دخول المرتزقة للقرية تمكنت وحدات حماية الشَّعب والمرأة بمقاومة بطولية من إخراجهم، وتحرير الرَّهائن، وقتل 100 مرتزق، وبلغ عدد العائلات التي شملتهم المجزرة 137 عائلة، والأطفال الذين فقدوا ذويهم 93 طفلاً.   
 
صوت ينادي (دخل المرتزقة القرية)
العضوة في لجنة المراقبة بمجلس مقاطعة كوباني زركا شيخ محمد (46) عاماً، من قرية برخ بوطان التَّابعة لمدينة كوباني، روت لنا تفاصيل المجزرة، وتقول "حدثت في الـ 25 من حزيران/يونيو، وأثناء تحضيرنا لوجبة السَّحور، كان المرتزقة يتمركزن في صوامع بلدة صرين، ولم يمضِ في تلك الفترة وقت طويل على تحرر تل أبيض/كري سبي منهم".
وكانت زركا شيخ محمد قد عادت من دورة تدريبية فكرية في كوباني لتوها "تلك كانت أول ليلة أنام فيها مع أسرتي، ولم تتوقف الكلاب في الخارج عن النَّباح، حتى تململت منها كثيراً، أعطاني ذلك شعوراً بالخطر المُحدق، فلم أستطع النَّوم، وخرجت لشرب الماء مرة أخرى".
لم تكن تعلم في ذلك الوقت، أن المُرتزقة كانوا يستعدون لدخول القرية، وتضيف "سمعت أصوات رصاص قادمة من منزل في الجَّهة الجَّنوبيَّة من القرية، تلك كانت إعلاناً لدخول المُرتزقة، الذين لم يدخروا جهداً لقتل المدنيين بعشوائية، حتى الأطفال الذين كانوا ينامون في فراشهم لم يسلموا"، وهنا تعالى صوت ينادي (دخل المرتزقة القرية).
 
"كُتب لي عمر جديد"
وتكمل "حاول أهالي قريتنا التَّصدي لهم، لكن أسلحتنا الخفيفة وعنصر المفاجأة لم يكونا في صالحنا، وأنا ذهبت لأحذر شقيقي، كان صراخ الأطفال والنَّسوة جراء التَّعذيب يتعالى، لذا سارعت لمنزل أختي لأحذرها، إلا أنني وجدت أحد المرتزقة يجلس على التَّراب عندها، حاولت ابنة شقيقتي جيان مقاومتهم، وأمسكت بسلاح والدها، ولكنها قتلت بعد نفاذ ذخيرتها".
وفي تلك الأثناء كان والدها متجهاً نحو حاجز قوى الأمن الدَّاخلي لإخبارهم بدخول المرتزقة للقرية، وطلب الدعم "حاولتُ الهرب نحو الجَّهة الشَّرقية، ولكنني أصبتُ برصاصة في كتفي أسقطتني أرضاً بين الممرات، ورأيت الدَّماء تسيل من كتفي وتغطي ملابسي، وبدأت الدَّعاء بأن لا أقع أسيرة بين أيديهم، ولكنهم لم يُشاهدوني، وفقدت وعيي".
وبعد لحظات استيقظت زركا شيخ محمد على صوت السَّيارة "حاولت النَّهوض ولم أستطع التَّحدث، لذا بدأت بالضغط على الجَّرح بيدي لإيقاف النَّزيف، كان هنالك مسافة 300 متر بين مكان سقوطي ومنزلي، لذا قطعت الأمل بالنَّجاة".
"بدأ أولاد أختي وعائلتي بالصَّراخ والركض باتجاهي، وحملوني ووضعوني في السَّيارة مع والدتي وأخوتي والأطفال، وخرجنا من القرية، وكنا نشاهد من بعيد وصول المرتزقة لمنزلنا، لقد كُتب لي عمر جديد".
 
عيونُ الأطفال شاهدة على المجزرة ونساء بقروا بطونهنَّ لإخراج الأجنة
توجهوا لمدينة كوباني التي لم تسلم من المرتزقة "دخلوا من الجَّهة الشَّماليَّة، وارتكبوا نفس المجزرة التي وقعت في قريتي، لذا توجهت لشمال كردستان، تلك كانت أوقات عصيبة لن أنساها". 
وتؤكد أنها لا تستطيع عد من فقدتهم في القرية، لأن عددهم بلغ 24 شهيداً من أقربائها وأسرتها. 
وحول الأطفال الذين عانوا من ويلات تلك المجزرة تقول "هنالك طفلة كان عمرها ستة أعوام وقت حدوث المجزرة، واليوم بلغت الثَّالثة عشر، وهي غير قادرة على الكلام نظراً للحالة النَّفسية التي خلفتها المشاهد الدَّامية لديها، وتعرضها للإصابة مع والدتها".
وتتابع "غاردينيا طفلة أخرى استشهد والداها، غير قادرة على التَّحدث، وبحاجة لعلاج نفسي، إذ أن ذاك اليوم المملوء بسفك دماء الأبرياء خلف ذكريات مؤلمة، يعاني على إثره عشرات الأطفال".
وتوضح "قُتلت امرأة كانت تريد إنقاذ أطفالها، وأخرى أرادت مُساعدة أسرتها، وقتلت الحوامل، وأخرج الأطفال بالسلاح الأبيض من بطون أمهاتهم، وصُفت الجَّثث في الشَّوارع".
وعلى الرَّغم مما شهدته النّساء من مجازر وحشية يدعون دوماً للمقاومة، والحديث لزركا شيخ محمد "ليست المجزرة الأولى ولن تكون الأخيرة، وباسم أهالي قرية برخ بوطان، لم تثبط هذه الجريمة إرادتنا وعزيمتنا، بل على العكس، ورغم ما حل بنا نُصر على الدَّفاع عن أرضنا". 
وتحذر من المؤامرات التي تحاك ضد شعبها، ومكونات شمال وشرق سوريا المُتعايشة على وجه الخصوص "يجب الإطاحة بكافة المخططات، ولا سيما التي تحيك خيوطها تركيا، والتي تستهدفنا بالحربين الخاصة والنَّفسية".
وتؤكد زركا شيخ محمد على ضرورة الوحدة "بها نصبح أقوياء، لحماية أنفسنا، لا نريد أن تتكرر المجازر التي شهدناها مرة أخرى، ولا أن تتم المُتاجرة بدمائنا، أو محو هويتنا وصهر ثقافتنا ووجودنا"، مقدمة التَّعازي لأهالي ضحايا هذه المجزرة.
ودفن جميع ضحايا مجزرة قرية برخ بوطان في مقبرة سميت باسم قريتهم، وفي كل عام يحيي الأهالي ذكراهم بإشعال الشموع ووضع أكاليل الورود على أضرحتهم.